بعد أن فقدنا البوصلة التي كانت تحدّد لنا الاتجاهات بطريقة ما، ها نحن الآن أمام إيلام نفوس خُدِعَتْ، وأجساد لا يسمح لها أن تُنازع إلا في ساعات الضجيج، تفادياً لأي إزعاج محتمل. ثم في إضاءة سريعة، نكتشف أيضاً أن كينونتنا، التي كانت مضطربة أصلاً، لم تعد خاضعة لثنائية الوجود أو العدم، أن نكون أو لا نكون، إنّما لمصادفات تُرجّح الاحتمال الثاني، وبين هذا وذاك يذيقوننا الأمَرّيْن.
مُنبهرين، نحاول أن نُسبغ على حياتنا معنى مغايراً، يتماهى على الأقل ما اعتاد عليه البشر. والعبرة من هذا الانبهار تكمن بلا شك في تداعيات تعمّدت أن تبقى مرتبطة بماض لم نعد نذكر منه شيئاً، أو بالأحرى لا نريد أن يخطر ببالنا ثانية. فالبيوت لم تعد البيوت التي عرفناها، وكل شيء، حتى الموت، تحوّل إلى تعبير يمكن إنكاره ومحوه من الوجود بزلّة لسان بسيطة!
أذكر مرّة أنني تكلّمت عن الهروب الكبير، وأذكر أيضاً كيف تحوّلت النظرات إلى علامات استفهام كبيرة: هل تهذي؟ الآن وأنا أعيد نفس الكلمات، أشعر بحق أنني أهذي أكثر من السابق، بل ينتابني الخجل لأنني أحلم في وضح النهار، وما كنت أشاهده كان محض سراب ليس إلا.
المفارقة العجيبة في هذا المشهد المُفترض، أن المتكلّم والمتلقّي كانا في وضع أحوج ما يكونان فيه إلى استطباب نفسي، حتى يمكن اعتبار وضعهما حالة مستعصية على العلاج، رغم إصراري على أننا "كنّا ولا زلنا" كائنات قادرة على التفكير والتعبير.
أضع أفكاري جانباً وأتابع الحديث مع أحد المتطوعين، بينما هو، طفل في الثانية عشرة من العمر، يتوقف عن الكلام لبرهة ويصيخ السمع لهذه اللغة التي يسمعها لأول مرة. يسألني عن معنى كلمات تتردّد بكثرة وأشياء أخرى قرأها على شفاه رجال الإنقاذ أثناء انتشالهم من البحر: فيفو ... مورتو ... حي ... ميت. هو كان يبدو حيّاً وميتاً في نفس الوقت: أن تتنفس لا يعني أنك تعيش.
وبينما هو منهمك في شمّ رائحة الملح العالق على جسده، ينضم إلينا متطوّعون آخرون أنهكهم البؤس الإنساني أكثر ممّا عانوه وهم يحملون الغرقى والأجساد الغائبة عن الوعي. أحدهم لا يتوانى عن السؤال، إنما بانذهال: كيف يحدث ذلك؟ أُحدّثه بشغف عن كوكب آخر يقع على الضفة الأخرى من البحر، عن عوالمه البسيطة، عن شعب بحاله مُهدّد بالزوال.
أتمادى في الشرح مستعيناً بصور مجازية وأمثلة حيّة من جحيم دانتي و"بيت الموتى" ومعسكرات الاعتقال النازية، مروراً برواندا وسريبرينيتشا في البوسنة، إنّما الصورة لا تكتمل، وأبقى حائراً أمام سؤاله: كيف يحدث ذلك؟
النظرات تبحث عن ملاذ آمن، وهو يبقى كما هو، طفل ابتلعه الصمت الذي خلّفته قذيفة مدوّية في أذنيه. أفهم منه بأنه لا يزال يراهم في البحر، وينطق بأسمائهم واحداً واحداً، كأنما يخشى أن يغرقوا في ذاكرته أيضاً. أنقل العدد إلى رئيس فريق الإنقاذ: هذا الصبي ما تبقى من عائلة عدد أفرادها ستة أشخاص. الجملة الأخيرة تنتقل بسرعة من شخص لآخر والرؤوس تلتفت إلى الخلف تباعاً وتُحدّق في ذلك الجسد النحيل الملفوف بغطاء رقيق من ورق الألمنيوم ليستعيد حرارته.
بعد أن اكتملت الحلقة حوله كمخلوق قادم من عوالم مجهولة، ارتعش الصبي وكأنه استفاق من حلم مرعب. ولم تمض لحظات إذ اتّسعت حدقتا عيناه، وكمن يريد أن يلخّص كلّ آلامه بكلمة واحدة، استجمع ما بقي من قواه الخائرة، وفجأة صاح: أهدافنا؟!
* كاتب سوري مقيم في ميلانو