تتحلّق مجموعة من الأطفال الصغار حول تلك المرأة التي تبادلهم الحديث وتمدّهم بالحنان. للوهلة الأولى يخيّل للناظر إليهم أنها أمّ هؤلاء الصغار، لكن الحقيقة مختلفة. في الواقع، هذه المرأة ليست سوى "أم بديلة"، والأولاد ليسوا فلذات كبدها وإنما أطفال إحدى قرى "إس أو إس".
في هذه القرى - خمس قرى في المغرب - حيث يعيش أطفال مغاربة مُسعَفون، تؤدّي نساء دور أمهات بديلات لهؤلاء الصغار الذين يعانون من أوضاع اجتماعية هشّة. هم إما أطفال يتامى أو تخلّى عنهم أهلهم، تهدف القرى إلى تقديم الرعاية لهم بطريقة تشبه الرعاية التي من المفترض أن يتلقوها لو كانوا في بيوتهم ووسط أسرهم.
وهذه القرى تأتي تحت سقف منظمة "قرى الأطفال إس أو إس" الدوليّة التي تهتم برعاية وتربية وتنشئة الأطفال الأيتام واليافعين الذين لا أسر لهم، والتي أسسها الألماني هيرمان غمينر في النمسا في عام 1949. وقد أنشئ أول فرع لها في المغرب في عام 1985 في ضواحي مدينة مراكش، وتخرّج منها 90 طفلاً، أكثرهم نجحوا في حياتهم العملية.
كل قرية من هذه القرى تشتمل على 11 بيتاً، والبيت يعيش فيه تقريباً عشرة أطفال يترعرعون في أسرة رمزية، فيها أب وأم وخالة. الأب يمثله رئيس القرية ، والأم هي التي تتكلف بتربية هؤلاء، بينما الخالة تساعد الأم البديلة وتحلّ محلها في حال غيابها.
ويُشترط في كل بيت من البيوت التي تؤوي هؤلاء الأطفال، أن تؤمَّن الراحة لساكنيها. تبلغ مساحة البيت الواحد 130 متراً مربعاً، ويتكوّن من غرفة جلوس وثلاث غرف نوم ومطبخ وحمام بالإضافة إلى حديقة مخصصة للعب. كذلك، فإن البيت مجهز بكل ما تتطلبه أسرة صغيرة من ظروف عيش كريم.
اقرأ أيضاً: نجاة أنور تدافع عن الأطفال ضحايا الاعتداءات الجنسية
عطف بديل
والأم البديلة في قرى الأطفال المُسعَفين، هي الأساس في هذه المؤسسات التربوية والاجتماعية، إذ إن دورها يقضي بأداء دور الأم الحقيقية التي حُرم منها الطفل اليتيم أو الذي لا يُعنى به أحد، من خلال منح الحنان والاهتمام الملموس وذلك المعنوي.
ويُشترط على الأم البديلة للعمل في قرية الأطفال، أن تكون إما عازبة أو أرملة من أجل التفرّغ الكامل لأولادها هؤلاء. أما سنّها فما بين 30 و40 عاماً، على أن تكون حاملة لشهادة البكالوريا على أقلّ تقدير، حتى تتمكن من مساعدة أطفالها في دروسهم. إلى ذلك، لا بدّ من أن تكون قادرة على منح الحنان لهؤلاء الأولاد، وصاحبة شخصية دينامية تتيح لها نسج علاقات إنسانية واجتماعية.
حياة محلى واحدة من هؤلاء الأمهات في القرية الواقعة في مدينة الجديدة. تقول لـ"العربي الجديد" إن "عملي يدور أساساً حول منح الأطفال حنان الأم الذي يفتقدونه منذ نعومة أظفارهم، سواء من خلال مواكبة حياتهم اليومية لحظة بلحظة، أو العناية بمأكلهم ومشربهم، ومدّهم بالعطف".
وتشير محلى إلى أن "من واجب الأم البديلة أن تخبر الطفل بأنها ليست والدته البيولوجية، وإنما هي أمّ تعوّضه حنان مَن ولدته وعطفها. وذلك حتى لا يُصدم عند معرفة الحقيقة عندما يكبر. كذلك يتوجّب عليها إخباره بأن باقي الأطفال ليسوا أشقاءه، وإنما إخوته البدلاء أيضاً".
أفراد أسوياء
محمد بن طالب هو أحد العاملين في قرى الأطفال في المغرب. يقول لـ "العربي الجديد" إن "الغاية من هذه المؤسسات ذات التنشئة الاجتماعية والتربوية، تتجلى في إنتاج أفراد أسوياء لا يشعرون بأي نقص ويمتلكون مقومات النجاح الشخصي والمهني، للانطلاق في الحياة مثلهم مثل باقي الأطفال خارج تلك القرى". ويوضح أن العملية كلها تتمحور حول دور الأم البديلة. إن كانت أماً تستجيب للشروط المطلوبة، وأدّت دورها بتفانٍ على الرغم من الأعباء التربوية الثقيلة التي تلقى على عاتقها، فإن الهدف من هذه المؤسسات يكون قد تحقق إلى حدّ بعيد، وأطفال الأم البديلة يتخرّجون بأفضل حال".
من جهة أخرى، تبقى الفتيات في داخل المؤسسة برعاية الأم البديلة إلى أن يتزوّجن. لكن ثمّة أخريات يبقين في القرى إلى أن يتحوّلن بدورهن أمهات بديلات لأطفال آخرين. أما الفتيان، فبمجرد بلوغهم مستوى التعليم الثانوي، يغادرون القرى لأنهم لم يعودوا أطفالاً. هكذا يصقلون شخصياتهم وقدراتهم في فضاءات أرحب. وهم في الغالب يتوجّهون إلى مؤسسات الطلاب أو الأحياء الداخلية في الجامعات والمعاهد التعليمية، لكنهم في خلال العطل الدراسية يعودون إلى بيوتهم في القرية.
وعلى الرغم من أن عدداً كبيراً من أطفال القرى نجحوا في حياتهم المهنية والشخصية وتركوا أمهاتهم البديلات ليخوضوا تجربة حياتية جديدة، إلا أن أكثرهم لم يقطعوا الصلة مع قرية الأطفال التي نشأوا فيها. ومن حين إلى آخر، يزور هؤلاء قراهم ويعودون إلى البيوت التي تربوا فيها على أيدي أمهات بديلات استطعن تعويض حنان أمهاتهم اللواتي وضعنهم ورعايتهنّ.
اقرأ أيضاً: الزهريون يكشفون كنوز المغرب