بعد مرور ثلاث سنوات على دخول روسيا والغرب في تبادل فرض العقوبات الاقتصادية، تلاشت كافة الآمال في تطبيع العلاقات في الأفق المنظور، لتتحوّل العقوبات إلى واقع اقتصادي جديد تتعايش روسيا معه أكثر فأكثر.
ومن مؤشرات تكيّف الاقتصاد الروسي مع واقع العقوبات، تجاوزه مرحلة الركود، واستقرار معدلات التضخم عند مستوى 4% فقط، وتعافي سعر صرف الروبل مقارنة بما كان عليه في العام الماضي، وعودة الناتج المحلي الإجمالي إلى النمو.
ومع دخول حرب العقوبات عامها الرابع، تتجه ألمانيا لتشديد العقوبات بحق موسكو على خلفية توريد توربينات "سيمينز" إلى شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا في مارس/آذار 2014، بينما وافق الكونغرس الأميركي على فرض عقوبات جديدة بحق روسيا وإيران وكوريا الشمالية.
ويشير مدير بحوث الاقتصاد الدولي بـ"مجموعة الخبراء الاقتصاديين" في موسكو، إيليا بريليبسكي، إلى أن الاقتصاد الروسي يواصل تكيفه مع العقوبات الغربية، موضحاً في الوقت نفسه، أن العقوبات الأميركية الجديدة قد تشكل خطورة على مشاريع روسية كبرى.
ويقول بريليبسكي في حديثه لـ"العربي الجديد": "ستكون العقوبات الألمانية ثانوية ولن يكون لها أي تأثير يذكر، لكن العقوبات الأميركية قد تهدد مصير مشاريع كبرى مثل "السيل الشمالي-2" لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا".
وحول تأثير العقوبات الأميركية على الاقتصاد الروسي منذ بدء تطبيقها، يضيف: "بلغت حصة العقوبات في مجموع تراجع الناتج المحلي الإجمالي الروسي 20% فقط، بينما تقدر حصة انخفاض أسعار النفط في تراجع النمو الاقتصادي بـ80%.
وأضاف: في حال لم تفرض العقوبات، لكان الناتج الإجمالي حالياً أكبر بنسبة 2% مما هو عليه، أو بنسبة 7 - 8% في حال ظل النفط عند مستوى 100 دولار للبرميل".
وفيما يتعلق بالتداعيات السلبية للعقوبات على الاقتصاد الروسي، يتابع: "أسفرت العقوبات عن زيادة خروج رأس المال من روسيا بمقدار 120 مليار دولار إضافية خلال ثلاث سنوات، وذلك بسبب سداد الشركات والمصارف الروسية أقساط قروضها الخارجية دون إمكانية الحصول على قروض جديدة، بالإضافة إلى تدهور مناخ الاستثمار وتراجع ثقة المستثمرين".
ومنذ صيف 2014، بدأت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على قطاعات كاملة من الاقتصاد الروسي، لتشمل عدداً من شركات النفط والمصارف الروسية الكبرى.
وتمثلت العقوبات في فرض قيود على إقراضها وحظر توريد التكنولوجيا، بينما ردت روسيا بحظر استيراد المواد الغذائية من الولايات المتحدة والدول الغربية التي فرضت عقوبات عليها.
ووسط تساؤلات حول من هو الخاسر الأكبر بين الدول الغربية على إثر إغلاق سوق ضخمة مثل روسيا، يقول بريليبسكي: "حسب النظريات الاقتصادية، فإن أي قيود على التجارة تضر بالجانبين.
إذا تحدثنا بالأرقام المطلقة، فإن فرنسا وألمانيا سجلتا أكبر تراجع في صادراتهما إلى روسيا، لكن بولندا ودول البلطيق (لاتفيا وليتوانيا وإستونيا) كانت الخاسر الأكبر بالأرقام النسبية بسبب توقف صادراتها الزراعية والغذائية إلى السوق الروسية".
لكن المستهلكين الروس تضرروا أيضاً من هذا الحظر، إذ إنه أدى إلى زيادة التضخم وارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية بنسبة قاربت 25% خلال عامين فقط، قبل أن تبدأ في التراجع في العام الماضي.
ويوضح بريليبسكي أن أسباب زيادة التضخم ثم تراجعه تعود إلى اتباع المصرف المركزي الروسي سياسة نقدية وائتمانية حازمة، وتعافي أسعار النفط، وتحسن سعر صرف الروبل.
ورغم أن الروبل الروسي سجل في النصف الأول من العام، أعلى مستويات له منذ عامين تقريباً، إلا أنه عاد مرة أخرى إلى التراجع، ليستقر عند مستوى يقارب حاجز الـ60 روبلاً للدولار الواحد.
ويرجع بريليبسكي التراجع الأخير للروبل إلى ثلاثة عوامل رئيسية، وهي خفض سعر الفائدة الأساسية إلى 9% وتذبذب أسعار النفط وتلاشي الآمال في رفع العقوبات.
وترى كبيرة المحللين بشركة "ألباري" للتداول، آنا بودروفا، هي الأخرى، أن تراجع الروبل خلال الأسابيع الماضية يعود إلى تشديد الكونغرس العقوبات بحق روسيا واستمرار الفائض في معروض النفط.
وتقول بودروفا لـ"العربي الجديد": "يتخوف اللاعبون في السوق من حصول الكونغرس الأميركي على صلاحيات واسعة لتمديد العقوبات وفرض عقوبات أخرى جديدة. ومن المتوقع أن يحدد إطار تطبيق العقوبات الإضافية على روسيا، موقف المستثمرين من الروبل لفترة من عام إلى ثلاثة أعوام".
وحول أسباب تذبذب أسعار النفط، تضيف: "أعلنت إيران مؤخراً عن نيتها زيادة إنتاج النفط بنسبة حوالي 50%، بينما زادت النرويج من إنتاجها بنسبة 8% في يونيو/حزيران الماضي، ولا تنوي التوقف عند هذا الحد".
وتتخوف روسيا أيضا من استمرار زيادة الإنتاج في كل من ليبيا ونيجيريا، مما يؤدي إلى زيادة الإنتاج الإجمالي لبلدان "أوبك" رغم الاتفاق على خفض الإنتاج. ودعا وزير الطاقة الروسي، ألكسندر نوفاك، ليبيا ونيجيريا للانضمام إلى "الدول المنتجة المسؤولة الأخرى والإسهام في إعادة التوازن إلى السوق بعد تحقيق معدل إنتاج مستقر".
وفيما يتعلق بالعقوبات، أعرب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قبل أيام، عن أسفه لـ"التضحية" بالعلاقات الروسية الأميركية من أجل ما قال إنه تسوية الشؤون الأميركية الداخلية، وذلك في إشارة إلى مزاعم تدخل موسكو في انتخابات الرئاسة الأميركية لدعم المرشح الجمهوري، الرئيس الحالي دونالد ترامب.
ولم يتأخرالرد الروسي على توسيع رقعة العقوبات، إذ أعلنت وزارة الخارجية الروسية يوم الجمعة الماضي، عن تقليص عدد الدبلوماسيين الأميركيين لدى روسيا إلى 455، ووقف استخدام السفارة الأميركية مخازنها في موسكو واستراحتها شمال غرب العاصمة الروسية، معتبرة أن العقوبات الجديدة هي "ابتزاز يهدف إلى تقييد تعاون الشركاء الأجانب مع روسيا".
وكان بوتين قد أكد أخيراً أن الاقتصاد الروسي تجاوز مرحلة الركود وعاد إلى النمو، بينما يتوقع المصرف المركزي الروسي أن يبلغ نمو الناتج المحلي الإجمالي للبلاد ما بين 1.3 و1.8% في عام 2017، في مؤشر يؤكد استمرار تكيّف الاقتصاد الروسي مع الصدمتين الخارجيتين المتمثلتين في العقوبات الغربية وتدني أسعار النفط.
من جهته، أبقى البنك المركزي الروسي، يوم الجمعة، على سعر الفائدة الرئيس دون تغيير عند مستواه الحالي البالغ 9% على أساس سنوي. وقال المركزي الروسي، في بيانه الذي نقله موقع "روسيا اليوم": "معدل التضخم في البلاد، ما زال بالقرب من المستوى المستهدف، ويتزامن ذلك مع استمرار انتعاش الاقتصاد، لكن مخاطر التضخم على المدى القريب والمتوسط لا تزال قائمة".
وأكد مجلس إدارة البنك في البيان أنه سيواصل تقييم مخاطر التضخم والتطورات الاقتصادية في البلاد، وذكر أن السياسة النقدية المتشددة نوعاً ما ستظل قائمة لفترة طويلة إلى أن يبلغ معدل التضخم الرقم المستهدف. وخفض المركزي الروسي سعر الفائدة 3 مرات خلال العام الجاري، أخرها في يونيو/حزيران الماضي، حينها قلص المركزي سعر الفائدة ربع نقطة مئوية إلى 9%.