أنا أشاهد إذن أنا موجود: أفلام تعطينا دروسًا فلسفية

31 مارس 2017
(مشهد من فيلم غاتاكا)
+ الخط -
تُثير المعضلة في فيلم قوّة قاهرة (Force Majeure) المقشعر للأبدان، مآزق فلسفيّة؛ ولكنه ليس الفيلم الوحيد الذي يفعل ذلك. فقد عالجت بعض الأفلام مثل فيلم تذكار(Memento) ، وفيلم إيدا (Ida) ، وفيلم إنها حياة رائعة (It’s a Wonderful life) ، كل هذه الأسئلة الكبرى قبلًا.


كيف نقوم بالشيء الصحيح؟
فيلم (قوة قاهرة - Force Majeure) من مقالة (Freedom regained) للكاتب جوليان باغيني:

لو كنت قد عشت في ألمانيا عام 1939، هل كنت ستساعد في حماية اليهود، أم أنك كنت ستقف مع الإبادة الجماعية الممنهجة بحقّهم؟ ولو تعرّضت عائلتك للخطر، فهل ستساعدهم أم أنك ستنجو بجلدك؟ كلنا نعتقد أننا وفي مواقف مثل هذه، فإن مواقفنا ستكون إنسانية وسنختار الخيار الصحيح؛ ولكن لا يمكننا معرفة ذلك أبدًا، إلا إذا عشنا الموقف بأنفسنا. وهذا هو الموضوع الرئيسي في فيلم (Force Majeure)، حيث وبشكل مفاجئ يهدّد انهيار ثلجي عائلة سويدية تتمتّع بوجبة غداء على دكّة منتجع فخم للتزلّج. يفشل الأب والزوج في هذا الاختبار فبدلًا من أن يحمي زوجته وأولاده، فهو يطلق قدميه للريح هربًا دون أن ينسى هاتفه الذكي الثمين طبعًا.

وفي أعقاب ذلك، تُحاول عدد من الشخصيات أن تخلق له الأعذار. تقول إحدى الشخصيات: "غالبًا أنت لا تدرك ما تفعله في مواقفٍ مثل هذه. كل ما تفلعه هو محاولة البقاء". قطعًا لن يكون أرسطو راضيًا بأي من التبريرات التي تدافع عن توماس (الزوج والأب). بل كان سيصرّ بأن توماس قد كشف وفي هذه اللقطة تمامًا عن شخصيته الحقيقية".

تتمثل رؤية أرسطو في أننا نادرًا ما نمتلك الوقت أو الفرصة للجلوس والتفكير في أفضل ما يجب فعله قبل أن نفعل ما علينا فعله. في الواقع، لا يحتاج الشخص الجيّد للقيام بذلك.

ولتصبح جيّدًا فإن عليك أن تتدرّب على أن تكون كذلك، عن طريق زراعة وصقل عادات الخير في داخلك. عندها فقط ستجد نفسك تقوم بالشيء الصحيح تلقائيًا تقريبًا. لأنك لو تدرّبت على التفكير فيما تريد أن تكون وتفعل ما هو ضروري لتُصبح هذا الشخص الجيّد، فإنك وقت الاختبار الحقيقي ستكون قادرًا على القيام بالشيء الصحيح دون التفكير.

يمكننا أن ندّعي بأن توماس كان قد مرّ بمجرّد لحظة من الجنون حيث عاد إلى غريزة البقاء البدائية لديهِ، ولكن زوجته إيبا تعرف زوجها على حقيقتهِ، وكذلك نعرف نحن. هرب توماس لأنّه يحب نفسه وهاتفه أكثر مما يحب عائلته، ويمكننا أن نرى ذلك من خلال تفاصيل الحياة اليومية له في الفيلم. فعلى سبيل المثال، وقبل الحادثة تسأله إيبا وهي في دورة المياه، ما إذا كان يتفقّد هاتفه، ولكنه يكذب ويقول: "لا". هذه ليست جريمة فظيعة في حدّ ذاتها، ولكن أرسطو كان ليقول بأن هذا تصرّف واحد صغير ضمن نسق كامل من السلوكيات التي تجعل شخصيته نرجسية وجبانة، وفي كل مرّة يختار أن يكذب بدلًا من أن يعترف لنفسه والآخرين بأنه هو مهووس جدًا بهاتفه يُصبح أكثر أنانية.

يخبرنا فيلم (Force Majeure)، بما أخبرنا أرسطو مسبقًا: تحصل العديد من الأحداث العشوائية وغير المتوقّعة، ولكن تصرّفنا وسلوكنا حيال هذه الأحداث، ليس عشوائيًا، بل نكون مسؤولين بشكل مباشر عن ردّات فعلنا.

ما الذي يجعل الحياة تستحق العيش؟
فيلم إنها (حياة رائعة - It’s a Wonderful Life) لبروفيسورة الفلسفة في جامعة هارفرد كريستين كورسغارد:

يطرح الكثير من الأفلام هذا السؤال: "ما الذي يجعل حياة أي إنسان خيِّرة؟". يحمل المخرج فرانك كابرا على عاتقهِ طرح هذا السؤال في فيلم الكريسماس العاطفي والمفضل عند الجميع ( It’s a wonderful life) بنتائجٍ متوقعة وغير متوقّعة. ويبدأ الفيلم بنتيجة متوقعة: "السؤال القديم حول ما إذا كانت الحياة خيِّرة أخلاقيًا هو سؤال خيِّر لأنه سيجعلك سعيدًا في حال كان الردّ عليه بالإيجاب".

وشخصية جورج بيلي، التي يقوم بها جيمس ستيوارت، تحقّق عنوان الفيلم من خلال التضحية بخططه وطموحاته من أجل عائلته والأفراد الأفقر في مجتمعه. وحسب الفيلم فإن ما يجعل من الحياة خيِّرة أخلاقيًا هو الطريقة التي تجعلك فيها منخرطًا مع الناس.

ولكن على مستوى أعمق قليلًا، يثير الفيلم تساؤلًا عمّا إذا كان ادّعاء سقراط الشهير "بأن الحياة غير المفهومة لا تستحقّ العيش" قد يكون صحيحًا. وما يمنع بيلي من الانتحار هو الفرصة لدراسة وفهم حياته بجهاز فلسفي لتجربة فكرية: "لقد أُعطِيتَ هدية عظيمة يا جورج. لقد أعطيتَ الفرصة لرؤية ما سيكون عليه العالم بدونك".

ويُشير الفيلم إلى أنه إذا لم يحظَ بتلك الفرصة، كان ليقتل نفسه. ولكن لو أنه قد انتحر معتقدًا بأنه كان ليكون من الأفضل لو لم يولد قط، فهل يحقّ لنا نحن كجمهور، أن نحكم بأنه قد عاش حياة رائعة؟ وإذا لم نحكم، فهل يظهر لنا الفيلم بأنه لا يُمكن لحياة الإنسان أن تكون خيِّرة إلا إذا كان الشخص الذي يعيشها يفكر ويعرف بأنها كذلك؟


هل يمكننا حقًا تبرير أي شيء؟
فيلم (إيدا - Ida) لأستاذة الفلسفة القديمة في جامعة أكسفورد أورسولا كوب:

تجيب إيدا "ثمّ ماذا؟"، عندما أخبرها عشيقها لتخرج معه. فأجابها: "ثم سنذهب لنشتري كلبًا، ثم سنتزوّج، ثم سننجب أطفالًا، وبعدها سنحصل على منزلٍ لنا". ثم تسأله إيدا نفس السؤال: "ثم ماذا؟"، فيجيب: "ثم الحياة المعتادة".

قبل أن تتلفّظ الراهبة المبتدئة إيدا بنذورها، يتمّ إرسالها للعالم الخارجي لتقابل عمّتها وهي آخر قريب حي لها. وخلال الفيلم تعرف بأنها يهودية وتكتشف كيف تم قتل والديها خلال الحرب. وتُحاول العمة التي تعمل كمدّعية عامة أن تقنع إيدا بأن تترك حياة الرهبنة، وأن تعيش حياتها كما تريد؛ ولكن في الوقت نفسه، نرى أن العمة نفسها مثقلة بماضيها الخاص. وعندما انتحرت العمّة، جرّبت إيدا السجائر والفودكا والكعوب العالية وموسيقى الجاز وأخيرًا ممارسة الجنس مع عازف ساكسفون شاب صارت عشيقته. ولكن بحلول نهاية الفيلم، نرى بأنها تعود إلى عادتها الرهبانية وإلى حياة الرهبنة من جديد.

يقدّم لها عشيقها عازف الساكسفون الحب والجو العائلي والرضا؛ ولكنا استمرت بإمطار نفسها بالسؤال نفسه: "ثم ماذا؟" مما يقودها نهاية إلى سؤال: "ما الذي يجعل حياة مثل هذه تستحق العيش؟".

يصاب عشيقها بالإحباط. والواقع أنه ليس من الواضح ما هي الإجابة التي يُمكن تقديمها عندما يصل طلب التبرير إلى هذا الحدّ. ونرى في سياق الفيلم بأن إيدا ترفض حياة من المشاركة الدنيوية وتختار بدلًا من ذلك نوعًا مختلفًا من الالتزام. ولا تفسّر هذا الأمر طبعًا. وإجابة عشيقها: "الحياة"، كانت آخر كلمة في الفيلم متبوعة فقط بموسيقى باخ مع مشهد عودة إيدا إلى الرهبنة سائرة عكس التيّار.

يتركنا الفيلم بهذا التساؤل بداخلنا حول ما إذا كان أي خيار نهائي مثل هذا يمكن أن يفسّر أو يبرّر تمامًا؟ هل يمكن أن يكون هناك إجابة نهائية على سؤال إيدا "ثم ماذا؟"، وإذا كان هناك، فما هو الشكل الذي يمكن أن يتّخذه مثل هذا الجواب؟


هل نحن أكثر من مجرد وجود بيولوجي؟
(فيلم غاتاكا - Gattaca ) لأستاذ أخلاقيات علم الأحياء في جامعة برينستون بيتر سينغر:

عندما أُطلق فيلم Gattaca عام 1997، كان عمر النعجة دوللي عامٌ واحد، وهي النعجة الأكثر شهرة في التاريخ وأوّل حيوان ثديي يتم استنساخه من خلية بالغة. كان مشروع الجينوم البشري، والذي تم تعريفه على أنه مكافئ بيولوجي لوضع رائد فضاء على سطح القمر، يتقدّم بوتيرة متسارعة نحو هدفه المتمثّل في رسم وترتيب خرائط الجينوم البشري بأكملها. أثارت هذه التطوّرات مناقشات أخلاقية واسعة النطاق حول الحتمية الوراثية.

هل استنساخ عالم مشهور أو رياضي ناجح سيكون قادرًا على الارتقاء إلى مستوى التوقّعات بأنهم سيحققون بقدر ما حقّق الأشخاص الذي أورثوهم المادة الوراثية، أم أن تلك التوقّعات ستكون مجرّد عبء نفسي ساحق عليهم؟ هل سيتيح لنا تسلسل الجينوم البشري تحديد الجينات التي تساهم في زيادة الذكاء أو السّمات المرغوبة الأخرى، وهل سيؤدّي ذلك بدوره إلى التمييز ضد أولئك الذين لا يملكونها؟

وفي هذه المناقشة المشحونة للغاية جاء فيلم "غاتاكا"، الذي أخذ اسمه من الحروف الأولية من اللبنات الأربع الأساسية للحمض النووي DNA.

يُصوِّر الفيلم المستقبل الذي يُمكن للوالدين فيه اختيار جيناتهم لينجبوا طفلًا بأفضل جيناتٍ يمكن لطفلٍ لهم أن يمتلكها. وهذا النسل والمعروفة باسم "فاليدس"، يحصل على أفضل المناصب في المجتمع. وتركّز حبكة الفيلم على محاولة فنسنت الطموح والذي تم إنجابه حسب طريقة التكاثر الطريقة القديمة التقليدية، الهروب من قدرهِ الجيني في أن يكون منظّفًا وأن يصبح رائد فضاءٍ بدلًا من ذلك.

وينتصر فنسنت من خلال قوّة إرادتهِ. وفي أحد المشاهد يتحدّى فنسنت أخاه المتفوّق جينيًا عليهِ أنطون، ليروا من منهما يمكنه السباحة لمسافة أطول في المحيط. وطبعًا يفوز فنسنت لأنه نسي أن يضع في اعتباره أن عليه السباحة رجوعًا مرّة أخرى، لأنه وضع كل تركيزه على تحقيق هدف السباحة لمسافة أبعد وأطول. وعلى سبيل الافتراض، فإن كثيرًا من المشاهدين قد أيّدوا شعار الفيلم: "لا يوجد جين للروح الإنسانية".

ويحتاج هذا الشعار قطعًا إلى تمحيص دقيق. حيث لو كنا نقصد "بالروح الإنسانية" شجاعة البطل وإصراره، فمن المفترض أن تكون هناك جينات لذلك، وإذا كنا نعرف ما يكفي عن جيناتنا، فإنها ستكون جزءًا من الملف الجيني الخاص بنا. وإذا لم نقصد ذلك، فماذا نقصد إذن؟ وكيف يمكننا أن نملك صفات لا يوجد لها أي أساسٍ بيولوجي؟


هل الأشياء التي نتخيّلها حقيقية؟
فيلم (غالاكسي كويست - Galaxy Ques) لأستاذة الفلسفة والقانون في جامعة ميامي سوزان هاك:

بعد حصّة عن الفلسفة والأدب درسنا فيها كيف تلعب رواية أليسون لوري أصدقاء تخيليين على وتر التناقضات والعلاقة التبادلية بين الحقيقي والخيالي، اقترح عليّ بعض الطلاب مشاهدة فيلم (غالاكسي كويست). وهو فيلم كوميديٍ ولكن مليء بالتحوّلات والتقلّبات الأنطولوجية.

في الدقائق الأولى للفيلم، سيبدو وكأنك تشاهد حلقة مبتورة من مسلسل تلفزيوني من نوع ستار تريك: مركبة فضائية تجوب أنحاء المجرّة، ويبدو ما بداخلها كأنه مصنوع من الفنير ورقائق الألمنيوم (القصدير) والتمثيل فظيع جدًا مثل الحوار، وبعدها نعلم بأن هذا عبارة عن مقطع من مسلسل تلفزيوني ألغي إنتاجه ويتمّ عرضه في تلك الأثناء في محفلٍ لمعجبي الخيال العلمي.

ولكن من بين كل أولئك المعجبين البشر الذين يرتدون أزياء تنكرية لفضائيين، فإن هناك مجموعة من الفضائيين الحقيقيين الذين يتنكّرون في شكلٍ بشريٍ ويرتدون أزياء مسافرين عبر الفضاء. ولأن الفضائيين قد أساؤوا فهم المسلسل التلفزيوني، فقد جاؤوا لحشد الطاقم الشجاع لسفينتهم الفضائية (وهي نسخة حقيقية من السفينة الفضائية المصنوعة من الفنير ورقائق الألمنيوم)، ليساعدوهم في محاربة الشرير ساريس.

وهكذا، يجد مجموعة من الممثلين المغمورين أنفسهم في الفضاءٍ حقًا، ويحاربون الفضائيين حقًا دون أن يكون معهم أي مخرج أو سيناريو أو أي دليل قد يساعدهم في مهمّتهم. وفي لحظة بريئة جدًا، يحاول الكابتن تاجارت أن يشرح للقائد الثيرميّ، بأن المسلسل التلفزيوني لم يكن وثائقيًا، وإنما مجرد خيال علميّ وأن الطاقم عبارة عن مجموعة من الممثّلين الذين يتظاهرون بأنهم مسافرون عبر الفضاء ولا يوجد من ضمنهم أي عالم فلكيّ، وهو ما أثار حفيظة الثيرمانيين: هل تمّ خداعهم؟ هل يخبرهم الكابتن بأن كل المسلسل عبارة عن أكاذيب وأوهام؟ ولكن بطريقة ما، يتقمّص الأبطال شخصياتهم بجديّة، وينقذون أصدقاءهم الفضائيين من الكارثة ليصبحوا لاحقًا أبطالًا حقيقيين.

ما الفرق بين الحقيقي والتخيّلي؟ أليست السفينة الفضائية في النهاية سفينة تخيّلية حقيقية؟ على الرغم من أنها ليست سفينة فضاء حقيقية؟ هل الخيال عبارة عن أوهام وأكاذيب أم أنه قد يكون ورغم زيفهِ الحرفي، شيئا آخر؟ في بعض الأحيان، استخدم هذا الفيلم كوسيلة لدفع الطلاب للتفكير في الأسئلة الفلسفية مثل هذه.


هل هناك ذات دائمة؟
فيلم (تذكار – Memento) لأستاذ الفلسفة في جامعة ستانفورد كينيث تايلور:

يمكننا أن ننظر إلى فيلم (Memento)، على أنه استكشاف فلسفي لطبيعة الذات ولدور الذاكرة في صنع وتفكيك الهوية. يقضي بطل الفيلم ليني شيلبي كل ساعات يقظتهِ في رحلة بحثٍ عن قاتل زوجته ليقتله. وقد عانى من إصابة شديدة في الرأس مما جعله غير قادرٍ على تحويل ذكرياتهِ قصيرة الأمد إلى ذكريات جديدة طويلة الأمد. ولا يستطيع أن يتذكّر أي شيء منذ حادثة القتل. وفي كل لحظة يعاني مع الأسئلة، الأسئلة التي تراوده في كل مرّة وكأنها أسئلة جديدة وملحّة أكثر في كل مرّة. ماذا أفعل هنا؟ كيف وصلت إلى هنا؟ ما الذي أحاول تحقيقه؟

وتكمن عبقرية هذا الفيلم، لا في أنه يثير تساؤلات حول الذاكرة والنفس، بل لأنه يجبرنا على أن نعيش دور ليني والتجول في شخصيتهِ طوال الفيلم تقريبًا. فهو ينسج حدثًا بين سردين منفصلين على ما يبدو، ولكنهما متشابكان في نهاية المطاف. حدثٌ يتحرّك إلى الوراء زمنيًا، والآخر يتقدّم إلى الأمام.

ومثل ليني، فإن علينا أن نعرف بطريقة أو بأخرى، دون مساعدة من الذاكرة، كيف وصلنا إلى هذا الحاضر المحيّر، وما نقوم به؟ ولماذا ما نقوم بهِ مهم؟

وعندما يندمج السردان في النهاية، نكون قادرين على رؤية "حقيقة" ليني الكاملة. ويتّضح لنا أنه في الواقع قد تعقّب قاتل زوجته وانتقم منهِ، على الرغم من أنه بالطبع قد نسي ذلك على الفور. وندرك أيضًا أن ليني قد حمل على عاتقهِ أن يتعقّب رجلًا آخر ويقتله، دون أن يكون مدركًا لذلك. ويشير تلاعب ليني بذاتهِ إلى درجة من الاستقلال والتي تتناقض مع حالتهِ. رغم أنه من الواضح أنه ليس من النوع ذي الوجود المنقطع والكينونة المستقلّة التي نفترض بكل سهولة أن "ذواتنا" مثلها.

فنرى في الفيلم أن ليني أكثر من مجرّد كائن محطّم ومكسّر. فالشظايا المنثورة والمفتتة من هويته تسعى باستمرار إلى نوع من إصلاح الذات. وربّما ينبغي أن نقول إن الذات الدائمة بعد كل شيء ليست بشيء ثابت وحاسم يتحقّق مرّة واحدة وإلى الأبد. ولربما تبقى الذات في عملية تشكيل دائمة لذاتها. عملية كاملة من التفكيك وإعادة صناعة وتشكيل. وإذا كان الأمر كذلك، فإن ليني إذن يختلف عن بقيتنا في الدرجة لا في النوع.


هل السعي للخير طريق للشر؟
فيلم (ربيع وصيف وخريف وشتاء... وربيع – Spring, Summer, Autumn, Winter ... and Spring) لسلافوي جيجك وهو المدير الدولي لمعهد بيركبيك للعلوم الإنسانية:

يبدأ كيم كي دوك فيلمه (Spring, Summer, Autumn, Winter ... and Spring ) براهب بوذي حكيم وتلميذهِ الصبي الصغير البريء. وبعد بضع سنوات تأتي امرأة إلى هذا الراهب ليساعدها على الشفاء، ولكن ومع وصولها تحلّ الفوضى بالمكان، حيث إن الصبي الذي صار مراهقًا، يمارس الجنس مع هذه المرأة، ويتبعها إلى المدينة، تاركًا خلفه الراهب الوحيد على طوفٍ يطوف في بحيرة على جبلٍ ما. وبعد بضع سنوات يعود الصبي، وهو رجل في أوائل الثلاثينيات من عمره، ويتبعه اثنان من المحقّقين. لقد قتل المرأة لغيرته عليها، وبالتالي حقّق نبوءة الراهب القديم، الذي حذّره من أن حب المرأة يؤدي إلى التعلّق، والذي ينتهي بقتل الهدف من التعلّق. وأوّل شيء يجب القيام به عند مشاهدة الفيلم هو أخذ دورته بشكلٍ حرفي أكثر مما يظهر: لماذا يقتل الشاب حبيبته عندما تتركه لرجل آخر؟ لماذا كان حبّه لها تملكيّا؟ ولو كان الأمر بالنسبة لأي رجلٍ مدني آخر، كان ليتقبّل بالأمر دون أن يفعل أي شيءٍ، مهما كان الأمر مؤلمًا له.

حسنًا: ماذا لو أن تربية الرجل كراهب بوذي هي ما دفعته لفعل ما فعله؟ ماذا لو لم تظهر المرأة إلا كغرض شهوة وحيازة، مما يثير في نهاية المطاف الرجل لقتلها بناءً على مبدأ "اللا تعلق" البوذي؟ هل الدورة الطبيعية التي يحاول الفيلم إيصالها، بما في ذلك حالة القتل، هي أن هذه الأشياء موجودة في العالم البوذيّ مسبقًا؟

في كتابه ظواهرية الروح، كتب هيغل أن الشر يكمن في النظرة التي ترى الشر في كل مكان. ألا يقدم فيلم كيم كي دوك حالة مثالية لمثل هذه الفكرة؟ فالشر ليس فقط شهوة الرجل التملكيّ، فالشر أيضًا هو نظرة الراهب المنفصلة جدًا عن الواقع والتي ترى الشهوة التملكيّة على أنها شر. وهو ما نسميّه بالانعكاسية في الفلسفة: وجهة النظر التي ندين بها حالة من الأشياء يمكن أن تكون في حد ذاتها جزءًا من هذه الحالة من الأشياء.


(المقال الأصلي)

المساهمون