سأقول لكِ شيئاً، أنا لا أفهم الذين لا يجيدون الكتابة، وكذلك الذين لا تستهويهم هذه العادة، وأنتِ منهم، ذلك أن الكتابة هي رسم الكلام على الورق، كما هي رسم لما في البصيرة كي يكون متاحا للبصر، وأن الكلام هو منطوق الشعور والأفكار، وما الأفكار والشعور إلا الحياة، وإلا فلماذا لا يُسمع الموتى ولا يسمع الصم الدعاء!
أنا لذلك أقول "أُحبكِ" أظهرها وأكتبها
أقول يا حبيبتي: إنني أؤمن بالشعور كله، فأعلنه، حزناً كان أم فرحاً، غضباً أم وجلاً، ولا حرج أن أحزن فيظهر عليَّ الحزن، وهنا أتعمد ظهوره، ذلك أنني حين أفرح فيظهر فرحي، تفرحين، وأنني حين أراكِ حزينة لحزني يزداد عشقي لكِ، لا لأني أُحب الكآبة في عينيكِ، لكن لأن ذلك ما يدفعني لنفض الظلام عني فنعود سعداء، الله يحب ذلك.
فهلا نكتب يا صغيرتي حزن الذين ما جفت خدودهم دمعاً على أعمارهم التي سُرِقُوها؟ أولم تدرِ أن القواميس تقول: إني حين أقول: يا عُمري، كأنما قلت: يا حبيبتي. وأنه لا حياة لمن لا قلب له ولا كبد، وأنها تقول، أيضاً، إن فلذات الكبد هم الأبناء، فما بالنا لا نكتب أعمارهم وأكبادهم بكاءً! لكن لو بكينا هل يُدفع الذين سُرِقُوها للسعادة مرة أخرى، كما كنا نُدفع لها بحزن أحدنا للآخر؟
أرجو أن تسمعيني..
أتمنى أن تفهميني..
أنا لا أظن يا حبيبتي، يا شمساً ضياؤها الضحكات، لو فقدت هذه المدعوة الكتابة أن أعود بعدها سعيداً.
وحزني، كل حزني، أن الناس أرقام في هذا البلد، وربما في غيره أيضاً، هذا إن لم يكن في الكوكب كله، فالساسة في العالم كله، لا يفهمون أن من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، لكنهم يفهمون أنه حين يقتل الرقم (5) لن تهتز عروشهم كما لو قتل الرقم (50) أو (500). ربما الشعوب كذلك، لا تغضب لنفس واحدة، إلا قليلاً، هذا إن غضبت، ولكن يروعها قتل النفوس، وللأسف، أو للغرابة، ليس دائما.
لكن ما يستقل به هذا البلد عن سواه ويتميز به، أن أرقامه دائماً ما تطرح وتقسم، وما جمعت أو ضوعفت يوماً، ما يستقل به هذا الوطن وساسته ويتميزون به، أنه مهما كبرت قيمة الرقم الذي يحمل علامة الـ (ــ) لا يهتزون أبداً، لأنهم "لأ.. لأ ليه؟ لأنه المفروض ميتهزوش.. عشان هم المسؤولين عننا! مينفعش يتهزوا"، ولا إنتي فاكره إيه!!.
بل يأمرونا في صيغة التذكير، أنه ما كان لنا أن تهتز قلوبنا وترتعد، ربما لأنه لو وجلت قلوب الناس من الموت حتى التفحم رحمةً وشفقةً على أكباد الذين ما جفّت خدودهم، كان في ذلك خطر يتربص بالوطن، الوطن الذي هو عندهم ليس التراب وليس الحدود، وطنهم السلطة، وإن السلطات والحكومات لا تعرف الحب أو الرحمة.
يهددهما كثيراً أن يعرفها الناس أو أن يتحابوا.
ليرحم الله الأطفال الذين حرّقوا بلا معصية في البحيرة، ولجميلات سوهاج اللواتي سيعرسن في جنات ربهن، ومن سبقهم وسبقهن من زهور منفلوط، الحب لأهاليهم، والدموع لدموعهم. ولولا أن لعنة الأوطان لعنة على ناسها، لقلنا اللعنة على هذا البلد، ثم لا نزيد إلا اللهم أخرجنا من هذه القرية.