07 يونيو 2019
أنتن السابقات وهن اللاحقات
سليمان موسى باكثير
خريج كلية العلوم/ قسم بيولوجي، يعمل في التحاليل الطبية، ويجد بعض العزاء في القراءة والكتابة.
حين يتحدث الأديب الروسي دوستويفيسكي عن مشاعره في أثناء الوقوف على أعتاب الموت (الإعدام)، يقول: كنت أقف بين رفاقي المحكوم عليهم بالإعدام، ألبسونا قمصان الموت، وزعونا على صفوف وكل صف من ثلاثة أشخاص، لم يبق سوى خمس دقائق ويأتي دوري، كم أردت أن أعيش، كم شعرت أن الحياة غالية، تصورت مدى الأشياء الخيّرة والجيدة التي كان يمكن أن أقوم بها، تذكرت كل ماضيّ واستخدامه بشكل غير جيد تماما، شعرت برغبة عارمة في أن أُمتحن من جديد، أريد أن أُمتحن من جديد، فهل يجوز؟
فجأة، وجد موسى نفسه يئن تحت وطأة بركان من المشاعر الحزينة المؤلمة إذا ما نظر في الشاشة التي أمامه بعد منتصف الليل بقليل بتاريخ 1 يناير 2019. كان نهبا لمشاعر جياشة مختلطة من كل صوب وحدب، لا يكاد يميّز إحداها ويهدئ من روعها حتى تفور أخرى، لم يكن فاقدا للوعي أو مُنوَمَا مغناطيسيا فقد كان فاطنا جدا، إذ لم يبق سوى سويعات قليلة ويبدأ عام جديد، فكأن تلك المشاعر نار تحت الرماد، فارت مع صرخة المولود الجديد.
تجلّى الماضي كاملا أمامه بأبهى صوره وأبشعها، فانتفض قلبه لدرجة شعوره أنه سيصاب بتشنجات عصبية عضلية، إنها الكارثة عندما تتحول من طفل موهوب ورائد في شخصيتك، تنم عن مستقبل باهر وأمل كبير، سواء على الصعيد الشخصي أو المجتمعي، إلى شاب أقل من العادي.
الحكاية بدأت عندما رأى موسى، وقد بلغ السادسة من عمره، معلمتين من المرحلة الابتدائية، على الرغم من درجة صداقتهما كما اتضح ذلك فيما بعد، يتعاركان سويا أمام الجميع لأجل ذلك الطفل، فكل منهما يريد أن يستأثر به في فصله، وهو غير عابئ بكلتيهما، فكل ما كان مسيطرا عليه تلك اللحظة المرحلة الجديدة التي يُقبِل عليها، فرغم استقلاليته التامة وعناده الذي جعله يرفض أن تذهب معه أمه إلى المدرسة في أول يوم، لكن ثمة ارتباط وثيق الصلة بينهما، جعله فترة كبيرة من مرحلته الابتدائية أثناء الدراسة يسرح بخياله في أمه وعما تصنع في بيتها الآن، علما أنه في كل مرة تلمحه المعلمة التي حاربت لتضمه معها، على هذا الوضع، تفاجئه بالسؤال وهي راغبة في نهره وتوبيخه وربما ضربه، فيخيّب مراميها ويجيب إجابة نموذجية، فتتعجب قائلة: أنت كنت شاردا، كيف تسرح وتركز في آن واحد؟
بحكم دراسته في كلية الآداب في قسم علم الاجتماع، كان يعرج بشكل ما على قراءة الشعر والأدب بأنواعه، وفي كل مرة يقرأ قصيدة "هوامش على دفتر النكسة" للشاعر نزار قباني، ينتابه شعور قاسي بالذنب ويدخل في نوبة جلد للذات، لأن معركة الحياة الحقيقية لا تُقاد بمنطق الطبلة والربابة، فعصب الحياة هو الجوهر وليست المظاهر، فقد ركن طويلا إلى المديح الذي يُكَنَى له بشكل صادق أو مغروض، لم يلتفت إلى أن مثل شخصيته دائما ما تحتاج إلى تطوير من نوع ما، لأنه لا ينفك يطلب من نفسه الكثير والكثير وكذلك المحيطون به.
وفي نهاية المطاف، وعلى إثر هذا الركون، تفوّق عليه الجميع، فصار كل من هو دونه، وكانوا يتوّددون إليه، أنجح منه وأقدر على البقاء ومواجهة الحياة التي هي بالأحرى أشبه بالسوق.
تتعالى صيحات الصراع داخله، فإذا بمحامي الدفاع يدخل على خط المحاكمة ليترافع عن موكله قائلا: إنما موسى نتاج فكرة "الصيت ولا الغنى" السائدة في المجتمع، هذا المثل الشعبي المعروف لدى الجميع، فأن تكون معروفا بين الناس بالغنى أفضل من أن تكون غنيا بالفعل، فلما اللوم عليه ومقاضاته؟ وهو طوال عمره،على الرغم من حب الآخرين له من أهل وأصحاب، وإن لم يخل أحيانا هذا الحب من بعض المكائد والوشايات والتهكم، لم يتفق قلبا وقالبا مع آراء من حوله وطريقة تفكيرهم وممارستهم للحياة، بل حسّه دائما ما أخبره أنّ الجميع يسير نحو الهاوية، وكلما حاول أن يبدي أي امتعاض كان يُقابَل بازدراء. أضيفوا إلى ذلك توقيره لذويه، أتحاسبونه لأنه لم يجهر وحيدا كما شاعرنا أمل دنقل: "المجد لمن قال لا في وجه من قالوا نعم"، والجميع يردد :"نعم تجلب النعم"؟ فهل حقا يا سادتي سيصبح العمر نسخ مكررة من الماضي، والنَّعَم تُغدق فقط على جمهور "نعم" بخاصة "الانتلجنسيا"؟
قضى موسى ليلته محموما، ومن دون أي تفكير، راح يكتب بوست على صفحته: "إن أوضاع المواطن العربي الفردية والاجتماعية أوضاع كافكاوية مأساوية، لا بد أن نصنع شيئا على وجه السرعة، أو ننسحب في صمت وهدوء تام، ونستغني عن الحياة ونتنازل عن حقنا في أن نعمل ونحيا ونحب ونتزوج وننجب، ثم تقوقع تحت غطاء فراشه وذهب في نوم عميق أشبه بالموت".
فجأة، وجد موسى نفسه يئن تحت وطأة بركان من المشاعر الحزينة المؤلمة إذا ما نظر في الشاشة التي أمامه بعد منتصف الليل بقليل بتاريخ 1 يناير 2019. كان نهبا لمشاعر جياشة مختلطة من كل صوب وحدب، لا يكاد يميّز إحداها ويهدئ من روعها حتى تفور أخرى، لم يكن فاقدا للوعي أو مُنوَمَا مغناطيسيا فقد كان فاطنا جدا، إذ لم يبق سوى سويعات قليلة ويبدأ عام جديد، فكأن تلك المشاعر نار تحت الرماد، فارت مع صرخة المولود الجديد.
تجلّى الماضي كاملا أمامه بأبهى صوره وأبشعها، فانتفض قلبه لدرجة شعوره أنه سيصاب بتشنجات عصبية عضلية، إنها الكارثة عندما تتحول من طفل موهوب ورائد في شخصيتك، تنم عن مستقبل باهر وأمل كبير، سواء على الصعيد الشخصي أو المجتمعي، إلى شاب أقل من العادي.
الحكاية بدأت عندما رأى موسى، وقد بلغ السادسة من عمره، معلمتين من المرحلة الابتدائية، على الرغم من درجة صداقتهما كما اتضح ذلك فيما بعد، يتعاركان سويا أمام الجميع لأجل ذلك الطفل، فكل منهما يريد أن يستأثر به في فصله، وهو غير عابئ بكلتيهما، فكل ما كان مسيطرا عليه تلك اللحظة المرحلة الجديدة التي يُقبِل عليها، فرغم استقلاليته التامة وعناده الذي جعله يرفض أن تذهب معه أمه إلى المدرسة في أول يوم، لكن ثمة ارتباط وثيق الصلة بينهما، جعله فترة كبيرة من مرحلته الابتدائية أثناء الدراسة يسرح بخياله في أمه وعما تصنع في بيتها الآن، علما أنه في كل مرة تلمحه المعلمة التي حاربت لتضمه معها، على هذا الوضع، تفاجئه بالسؤال وهي راغبة في نهره وتوبيخه وربما ضربه، فيخيّب مراميها ويجيب إجابة نموذجية، فتتعجب قائلة: أنت كنت شاردا، كيف تسرح وتركز في آن واحد؟
بحكم دراسته في كلية الآداب في قسم علم الاجتماع، كان يعرج بشكل ما على قراءة الشعر والأدب بأنواعه، وفي كل مرة يقرأ قصيدة "هوامش على دفتر النكسة" للشاعر نزار قباني، ينتابه شعور قاسي بالذنب ويدخل في نوبة جلد للذات، لأن معركة الحياة الحقيقية لا تُقاد بمنطق الطبلة والربابة، فعصب الحياة هو الجوهر وليست المظاهر، فقد ركن طويلا إلى المديح الذي يُكَنَى له بشكل صادق أو مغروض، لم يلتفت إلى أن مثل شخصيته دائما ما تحتاج إلى تطوير من نوع ما، لأنه لا ينفك يطلب من نفسه الكثير والكثير وكذلك المحيطون به.
وفي نهاية المطاف، وعلى إثر هذا الركون، تفوّق عليه الجميع، فصار كل من هو دونه، وكانوا يتوّددون إليه، أنجح منه وأقدر على البقاء ومواجهة الحياة التي هي بالأحرى أشبه بالسوق.
تتعالى صيحات الصراع داخله، فإذا بمحامي الدفاع يدخل على خط المحاكمة ليترافع عن موكله قائلا: إنما موسى نتاج فكرة "الصيت ولا الغنى" السائدة في المجتمع، هذا المثل الشعبي المعروف لدى الجميع، فأن تكون معروفا بين الناس بالغنى أفضل من أن تكون غنيا بالفعل، فلما اللوم عليه ومقاضاته؟ وهو طوال عمره،على الرغم من حب الآخرين له من أهل وأصحاب، وإن لم يخل أحيانا هذا الحب من بعض المكائد والوشايات والتهكم، لم يتفق قلبا وقالبا مع آراء من حوله وطريقة تفكيرهم وممارستهم للحياة، بل حسّه دائما ما أخبره أنّ الجميع يسير نحو الهاوية، وكلما حاول أن يبدي أي امتعاض كان يُقابَل بازدراء. أضيفوا إلى ذلك توقيره لذويه، أتحاسبونه لأنه لم يجهر وحيدا كما شاعرنا أمل دنقل: "المجد لمن قال لا في وجه من قالوا نعم"، والجميع يردد :"نعم تجلب النعم"؟ فهل حقا يا سادتي سيصبح العمر نسخ مكررة من الماضي، والنَّعَم تُغدق فقط على جمهور "نعم" بخاصة "الانتلجنسيا"؟
قضى موسى ليلته محموما، ومن دون أي تفكير، راح يكتب بوست على صفحته: "إن أوضاع المواطن العربي الفردية والاجتماعية أوضاع كافكاوية مأساوية، لا بد أن نصنع شيئا على وجه السرعة، أو ننسحب في صمت وهدوء تام، ونستغني عن الحياة ونتنازل عن حقنا في أن نعمل ونحيا ونحب ونتزوج وننجب، ثم تقوقع تحت غطاء فراشه وذهب في نوم عميق أشبه بالموت".
سليمان موسى باكثير
خريج كلية العلوم/ قسم بيولوجي، يعمل في التحاليل الطبية، ويجد بعض العزاء في القراءة والكتابة.
سليمان موسى باكثير