"أنسي الحاج هو، بيننا، الأنقى. نحن الآخرين ملوّثون بالتقليد قليلاً أو كثيراً". شهادة كتبها أدونيس في مجلة "شعر" عام 1962 وتكشف جانباً جوهرياً من شخصية أنسي وموقعه الفريد داخل المشهد الشعري العربي.
نعم، إنه "الأنقى". في حداثته الطليعية التي لا تشوبها شائبة وفي مواقفه الجريئة والبصيرة. هذا ما يتبيّن بسرعة لمَن يراجع مساره العمودي المتوّج بالإنجازات والذي أكمل دائرته اليوم برحيل صاحبه.
من مواليد بيروت 1937، ظهرت ميول أنسي الأدبية باكراً في مقالات حرّة رصدها خلال سن المراهقة لمؤلفين موسيقيين غربيين كبار وصدرت في الصحف المحلية. ومنذ تلك الفترة، يتجلى في نصوصه استيعاب مذهل للثقافتين العربية والأوروبية وموهبةً كتابية نادرة.
في عام 1956، بدأ نشاطه الصحفي إلى جانب والده، لويس الحاج، الذي أوكل إليه مهمة الإشراف على الصفحة الثقافية في جريدتَي "الحياة" و"النهار". وبموازاة ذلك، انطلق في نشر قصائده الأولى وترجمات بعض نصوص "لوكونت دو ليل" في مجلة "الأديب". ويجب انتظار 1964 كي يُطلق ملحقه الأدبي الشهير في جريدة "النهار" ويخصص فيه زاويته الأسبوعية، "كلمات، كلمات، كلمات"، لتسليط الضوء على المشاكل الاجتماعية والأدبية الراهنة بلغة واضحة ومباشرة.
وفي هذه المقالات، التي صدرت مجموعة منها عن دار "النهار" في عام 1988، تحرر أنسي من الكتابة الصحفية التقليدية ولجأ إلى أسلوب أنيق وصور رائعة يتزاوج فيها الغضب والغنائية، الطرافة والهاجس الأخلاقي. وجرأة هذه النصوص عرّضته أحياناً إلى الخطر، كما حصل خلال محاضرة في طرابلس عام 1969، حيث تعرّض الى محاولة اغتيال لدفاعه الشرس عن المرأة وضرورة تحرّرها.
لكن قبل ملحق "النهار"، نشر أنسي مقالات نقدية كثيرة في مجلتَي يوسف الخال ("شعر") وتوفيق الصايغ ("حوار")، إلى جانب ممارسته الثابتة للكتابة الشعرية. وفي هذا السياق، شكّلت مجلة "شعر" منبره المفضّل، فشارك بشكلٍ وثيق في تحريرها، منذ عددها الثاني الذي هاجم داخله الشعر الواقعي الطاغي آنذاك، من خلال سلسلة نصوص عنيفة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الفضل في بقاء هذه المجلة فترة طويلة الوسيط العربي الأول للسورّيالية يعود إلى أنسي. فترجماته الممتازة داخلها لأعمال أندريه بروتون وأنتونان أرتو، كانت دائماً مرفقة بنصوص تفسيرية للمشروع السورّيالي. هذا ويبيّن النص الذي كتبه فيها حول وفاة بروتون تعلّقه بالسورّيالية التي لم يتبنّها كعقيدة بل كموقف ذهني وكوسيلة نضال ناجعة لتحرير الإنسان وبلوغ الزمن الراهن.
ومع صدور ديوانه الأول "لن" (1960)، فرض أنسي نفسه كأفضل محرّض على مشروع الحداثة العربي ولعب دوراً حاسماً في تطوير القصيدة العربية عبر تحريرها من الأشكال الماضية وفتحها على مفردات فضاءٍ جديد. وفي هذا السياق، يشكّل ديوان "لن" منعطفاً رئيساً في البحث الشعري العربي خلال القرن العشرين، ليس فقط لتأكيده توجّه الشاعر في تحديث التقنيات اللغوية، بل لسماحه أيضاً للشعر بمقاربة موضوعات محظورة.
وبفضحه، علم العروض التقليدي في الوقت الذي كانت تطغى عليه الخطابات القومية والعقائدية والسياسية، سجّل أنسي في هذا الديوان قطيعة لا سابقة لها مع جميع معطيات النظم الشعري القديم، وأسّس لشعر يمليه إيقاع الفرد حصراً ويشكّل طريقة الانعتاق الوحيدة والسبيل لمكافحة قوى الاضطهاد التاريخية والمعاصرة التي غالباً ما تخفّت داخل طيّات القياس المتري.
وعلى صعيد آخر شكّل حب أنسي للحياة والمرأة، ورقّته تجاه الكائنات والاشياء، مصادر وحي قصائده التي تدين بحيويتها للغةٍ بلورية تفيض بصورٍ مدهشة. وبابتعاده كل البُعد عن الأسلوب والبلاغة الكلاسيكيين واستسلامه إلى تلاعب لغوي حقيقي ومثمر، حوّل أنسي الشعر إلى حقل اختبارات لحركة الأشكال المتنوعة والسيّالة لقواعده.
ويتجلى ذلك بقوة في دواوينه الثلاثة اللاحقة: "الرأس المقطوع" (1963)، "ماضي الأيام الآتية" (1965) و"ماذا صنعتَ بالذهب ماذا فعلتَ بالوردة" (1970). أما ديوان "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" (1975)، الذي يتألف من قصيدة واحدة طويلة، فاستقى أنسي مادته الأثيرية من الفكر الغنوصي المسيحي خاطّاً مساراً صوفياً رائعاً لحميميةٍ عاشقة تعبّر عن ذاتها بأسلوب نقي لكن شهواني، تطبعه غزارة حلمية من الرموز والمجازات. وبطريقته الفريدة، سعى في هذا النص إلى استعادة الذات مقترحاً، بعيداً عن النموذج الكلاسيكي، قياساً أو صيغة تصريفية جديدة لقصيدة الحب.
وبشكلٍ عام، آمن أنسي بأن الحب هو المصدر الأول لتحوّل الإنسان. شاعر المرأة بامتياز، احتفى بها بعبارات مشحونة بورعٍ شبه ديني، فأضحت ليس فقط الموضوع المفضّل بل أيضاً ذلك الكائن الذي ينخرط ضمن مسعى وجودي ويستحيل، في سيرورة البحث عن الذات، إلى المادة الخيميائية الأولية التي تقود الشاعر إلى تحقيق أقصى درجات فردانيته.
وبموازاة مشاغله الشعرية، لعب أنسي دوراً أساسياً في تطوير المسرح الطليعي اللبناني. إذ ترجم وكيّف نصوصاً لكبار الكتّاب المسرحيين الغربيين، مثل "كوميديا الأخطاء" لشكسبير، و"الملك ينازع" ليونيسكو، والعادلون" لألبر كامو، و"الآنسة جولي" لستريندبرغ. وبلغتها الشعرية الصائبة والحيّة، أحدثت هذه الترجمات التي اعتمدها مسرحيون لبنانيون مهمون، مثل منير أبو دبس وسيرج فازيليان وشكيب خوري وروجيه عسّاف ونضال الأشقر، وعياً كبيراً لدى جمهور المسرح اللبناني.
ومع انطلاق دورة العنف في لبنان عام 1975، وقّع أنسي مقالات مرجعية في جريدة النهار باسم "سراب العارف، قبل أن يغادر وطنه إلى باريس في العام 1977 لفترة ثلاث سنوات أشرف خلالها على أسبوعية "النهار العربي والدولي".
وبعد سنوات من الصمت والعزلة، تمكّن الشاعر من استعادة نبرته القديمة والفريدة داخل قالب شعري جديد، فكانت شذراته الحكمية الرائعة التي نشرها بانتظام تحت عنوان "خواتم" في مجلة "نقاد"، قبل أن يجمعها في مجلدَين (1991 و1997) تحت العنوان نفسه ويجمع قصائد متفرّقة نشرها منذ السبعينات في صحف ومجلات مختلفة، داخل ديوان جديد بعنوان "الوليمة" (1994).
وقد يبدو مسار انسي الشعري محفوفاً بتناقضات جعلته يتأرجح بين إلحاد وإيمان، بين تشييد وتدمير، وبالتالي بين الكينونة والعدم. لكن علينا أن نفهم أعماله كمكان تصادُف الأضداد واتحادها. فمثل الشاعر اللاتينين، فيرجيل، خلال رحلته الليلية الارتقائية نحو السماء، شكّلت تناقضات أنسي، الجوهرية في عملية تحويل أناه، قوةً محرّكة. ومن هذا المنطلق، تكشف قصائده وشذراته إيمانَ متمرّدٍ كريمٍ في شكّه لكن بصير في بحثه المحموم عن الحقيقة.