رحل أنطونيو بويرو باييخو قبل ستة عشر عاماً، وأغلق وراءه باب المسرح الإسباني في القرن العشرين. لا يزال صدى مسرح بويرو يتردّد صاخباً على خشبات مسارح إسبانيا، إذ ظلّ يلهب المشهد الثقافي منذ منتصف القرن الماضي، رفقة أعمال رامون ديل بايي إنكلان وغارثيّا لوركا.
لقد استبعدت المحاولات الحداثوية في المسرح الخشبةَ والمقاعد أيضاً، ولم يوفَّق معظمُها في الانزياح عن النص التقليديّ، وصار الجمهور القليل يفتّش من حين لآخر عن عروض أحبّها في وقت مضى، أو سمع عنها ما يسرُّ، مثل مسرحيات شكسبير أو آرثر ميلر أو بيكيت، وربما قصد، لانعدام البدائل، حتى مسرحية بالإنكليزية مقتبسة عن رواية روسية كـ"المعلّم ومارغريتا" لبولغاكوف.
في أيلول/ سبتمبر الماضي مرّ قرن على ولادة أنطونيو بويرو باييخو (1916-2000) رائد المسرح الإسباني في منتصف القرن العشرين، دون أن يتذكّره أحدٌ في بلاده كما يجب. واليوم ما من مسرح واحد يستعيده، على الرغم من استمرار عرض مسرحياته حتى أواخر السبعينيات بنجاحات استثنائية.
منذ البداية لمع بويرو ككاتب مسرحي متفرّد، وصارت له بصمة لا تُمحى في المسرح الإسباني. استقطبت أعماله جيل الشباب على الخصوص، ويُقال إن المسارح كانت تغصّ بالجمهور في عروضه الافتتاحية، بعضهم يبقى واقفاً، والجميعُ متلهّفون، يدخّنون بشراهةٍ، متيقّظين في العتمة لأيّة مفاجأة قد تأتيهم من الخارج حيث البوليس والمخبرون أو من الداخل حيث عيون الممثّلين التي ترمقهم بلا مبالاة بين حين وآخر من فوق الخشبة المطقطِقة تحت الأقدام.
في مسرحيته الأولى "في الظلمة المشتعلة"، 1946 يدفع الكاتب بالجمهور إلى الخشبة دون مقدّمات، فيُطفئ جميع أنوار المسرح ويدعهم يغرقون للحظاتٍ في السوّاد العميم الذي تعيشه شخصيات المسرحية: عُميٌ في بلاد العميان! وهكذا تأخذ الإعاقة الجسدية في العمل معنىً مضاعفاً، حقيقياً ورمزياً.
سيتكرّر الأمر في أكثر من عمل حيث اشتغال بويرو على الشكلانية وبناء العمل صانعاً سمة ميّزت أعماله وأثّرت آنذاك في تكوين نصوصه المسرحية، فقد استعمل المكان بوظيفته ومغزاه، خاصّة موقع المتفرّج فيه، وكان يركّز على استغراق المتفرّج في الحدث من وجهة نظر الشخصيات، ثم يستخدم تأثير ذلك في استكمال تعميق المشهد وتقويته. جعل بويرو الجمهور يلتمس عن قربٍ التناقضات والعذابات التي تُبرِّح ضمير الشخصيات.
في عمله "حلمُ الصواب"، يجد الجمهور نفسه أمام غويا أصمّ، فيسمع فقط ما يسمعه هذا الرسّام، الذي يحوّر حقيقة محادثات ليس في وسعه سماعها، ويختلق عوالمَ انطلاقاً من فضاء يضجّ بالأصوات. يعاني المتفرّج أيضاً مثل توماس، بطل مسرحية "المؤسّسة"، فتستغلق على ذهنه الأمور، ولا يُسمح له بمعرفة الحقيقة حتى يُدلي هو نفسه بحقيقته.
في مسرحية "الانفجار"، تلك اللحظات القليلة التي تسبق الضغط على الزناد مقلقةٌ حدَّ الإنهاك، فالكاتب والصحافي الإسباني ماريانو خوسيه دي لارّا يقرّر إنهاء حياته الشقيّة التي لا يتمكّن فيها من امتلاك الحرية التي ينشدها؛ استعادة لوجه من وجوه إسبانيا الموغلة في الفساد عبر سيرة حقيقية لهذا الكاتب الذي عاش في القرن التاسع عشر.
يمكن تصنيف العديد من أعمال بويرو ضمن المسرح التاريخي، إذ ثمة أعمال تعيد خلق شخصياتٍ ميثولوجية مثل "حائكة الأحلام" التي تستعيد بينولوبي هوميروس، أو ما يتناول حقبة تاريخية كما في "كونشيرتو سان أوفيديو" التي تدور أحداثها في فرنسا القرن السادس عشر. مع ذلك، ليست العودة إلى التاريخ عند بويرو سوى استقراء للحاضر ووسيلة لابتكار المستقبل. يقول بويرو: "يجب أن يكون أيّ عمل مسرحي معاصراً، قبل أيّ شيء آخر، حتى وإن كان تاريخياً. المسرح التاريخي ثمين ما دام يضيء الحاضر".
لم يُخفِ بويرو رغبته الصارخة في تعرية حقيقة الحياة في بلده بعد الحرب التي زرعت بذور الخوف والمراقبة في كلّ زاوية، فلم يتردّد في اللجوء إلى مناخات كانت مطروقة حتى في المسرح الشعبيّ، لكنه استبدل بالفكاهة المأساة الحقيقية لمصائر شعب شجاع يكافح ليقهر الفقر والركود؛ وكان يعتبر أن هذه الأداة لا تُفضي إلى فقدان الأمل مثلما تفعل الفكاهة وحدها بالضرورة.
لقد اشتغل صاحب "محاورة سرّية" على تحليل سلوك الإنسان وتفكيره، وتحدّث إليه وجهاً لوجه واستنطق مشاكله وأوجاعه التي يُقاسيها بوصفه إنساناً أولاً، ثم فرداً يحيا في مجتمع معيّن. أضفى اعتناؤه بهذه الناحية بُعداً أصيلاً على أعماله، وكان طوال الوقت يحافظ على التوازن بين الفعل الدرامي كنسقٍ مستقلّ والعمق الموضوعاتي بمنحيَيه السيكولوجي من جهة والاجتماعي والسياسي من جهة ثانية.
ولربما يفسّر هذا عدم وجود تغييرات عميقة في أعماله عقب الانتقال الديمقراطي في إسبانيا أواسط السبعينيات، وقد يقع البعض في فخّ المساءلات الساذجة فيتّهمه بعدم الالتزام أو بالغموض المتعمّد أو بشيء من هذا القبيل.
غير أن بويرو حاول طوال حياته (كما قال) "النظر إلى الحياة بذات النظرة الهادئة التي رأى بها بيلاثكِث مُهرّجِيه وبناتِ مُلوكه، أو سولانا مُومساتِه، أو التي رأى بها كلّ من بينابينتِه ولوركا فلاحِيه، أو باروخا منبوذيه"، وبتلك النظرة سعى للزجّ بالجمهور في العمل وتحويله إلى متلقٍ حقيقيّ قادر على الحكم والتغيير.
لذلك فإن بويرو مفهوم لدى شريحة عريضة من المجتمع، دون الوقوع في الخِفّة أو المجانية. على العكس، جاءت أعماله على قدرٍ من الرصانة، وإيقاعها رتيب بعض الشيء، رغم شخصيته المتّسمة بروح الدعابة. كانت الناس تتطلّع إلى تجاوز المأساة خاصّة بعد مضيّ عقد على الصدامات الدموية والتمزّق الثقافي الذي يعانيه البلد إثر تشتّت معظم مثقّفيه في المنفى، فجاءت مسرحياته لتدفع إلى التأمّل وإعادة التفكّر في كثير من الأشياء والقضايا.
وفي النهاية يبقى مؤلّف "الفجر" مسرحياً كلاسيكياً، فليس لديه قطيعة جذرية مع الشكل، لكن ثمّة في نصّه دفقة غنيّة من الموضوعات الحداثية المعقّدة، والتراجيديّةُ الجديدة التي افتتحها في المسرح الإسباني تعتمد البناءَ المفتوح، كما في بعض التراجيديات الإغريقية، فتترك للمتلقّي حسب وعيه وضميره حرية تعديل المصائر في النهايات حيث تصمت الشخصيات أو تقضي مهزومة أو تنهار.
كانت مسرحية "حكاية سُلَّم" التي كتبها بين عامي 1947 و1948، أوّل عمل له يُمثَّل على الخشبة عام 1949، ونال عنها "جائزة لوبي دي بيغا" للمسرح. كما اُعتبرت "كوّة الضوء" التي اُفتتحت على الخشبة عام 1967، واحدة من أفضل مسرحياته، بقي ملصقُها معلّقاً قرابة تسعة أشهر، وقُدّم حينها ما يزيد عن خمسمئة عرض منها. حصل عام 1986 على جائزة ثيربانتس للآداب الإسبانية عن مجمل مسرحياته حتى ذلك العام، إضافة إلى عديد من الجوائز الأدبية الأخرى.
________________
سيرة في الظلمة المشتعلة
ولد بويرو باييخو في غوادالاخارا ثم انتقل مع عائلته عام 1934 إلى مدريد حيث درس الفنون الجميلة. كان بويرو ماركسيّ الميول منذ شبابه المبكر، وبعد أن أُعدم والده في كانون الأول/ ديسمبر عام 1936 بدأ بالنشاط الثقافي والسياسي ضد قوّات فرانكو.
اعتقل بعد انتهاء الحرب لمدة شهر، وخرج بعدها ليعمل في مجموعة سريّة على إعادة تنظيم الحزب الشيوعي الذي انتسب إليه خلال الحرب، قبل أن يبتعد عنه نهائياً في سنوات لاحقة.
اعتقل في أيار/ مايو 1939 مع رفاق آخرين بتهمة "صلتهم بالتمرّد"، وحُكم عليه بالإعدام، ليُخفّف بعد ذلك الحكم إلى السجن ثلاثين عاماً. تنقّل بين عدة سجون، ورسم لوحات، وبورتريهات لأصدقاء منهم الشاعر ميغيل إيرناندِث، وكتب مقالات ودراسات في الفن التشكيلي.
أطلق سراحه في عفوٍ عام 1946 بحرية مشروطة وإقامة جبرية في مدريد. ترك الفرشاة واللون، واتّجه إلى الكتابة مؤلفّاً في العام نفسه مسرحيته الأولى "في الظلمة المشتعلة".