في ألبومه الأخير، "استذكار"، الذي يحتوي عشر مقطوعات تستحضر الثورة التونسية، يختبر الموسيقي التونسي أنور براهم (1957)، القدرة السمعية للعود؛ إذ لا يبدو المزج بين مختلف الأنماط الموسيقية، الشرقية والغربية، أو التنويع بين الموسيقى المعاصرة وتلك الكلاسيكية، سوى توليفة فريدة تمكّنه من دفعها، شيئاً فشيئاً، نحو فضاء مفتوح على كلاسيكيات المدرسة الانطباعية الأوروبية، والموسيقى الشرقية، في إخراج أوركسترالي.
الفرادة التي حظيت بها أعمال صاحب "حكاية حب لا يُصدّق" و"عيون ريتا المذهلة"، تنهل من طبيعة معرفية لديه، مستنداً إلى الفلسفة الموسيقية المتعلّقة بآلة العود. تتميّز موسيقى براهم بمحتواها الحسّي وتحاشيها للتكرار النغمي.
إنه الأسلوب الأدبي الفرنسي الذي عُرف بـ"الرمزية" في العصر الذي تمكّن فيه المؤلف الموسيقي الشهير، كلود ديبوسي، من كسر السلالم التقليدية في العزف، ليصبح بعده، إلى جانب موريس رافيل، من أبرز روّاد المدرسة الانطباعية التي لا يخفي براهم تأثّره بها.
من جهة أخرى، يركّز صاحب "خطوة القط الأسود" على العزف في صالات مغلقة مع فرقته الصغيرة؛ ما عدّه النقّاد منهجاً يتماثل فيه العزف والتشارك المكاني، وهو ما يُعرف بـ"موسيقى الحجرة"؛ الفن الموسيقي الذي راج في صالونات الأمراء سابقاً.
في مجمل أعماله، لا يمكن إغفال الإحساس الذي يتولّد من تكامل الأداء والمعنى، كما نتلمّس شيئاً من الحنين الذي يلازم موسيقى براهم، خصوصاً في عمله الأخير. لكنّه، مع ذلك، لم يقع في فخ التنميط الذي يغلب على الفواصل الزمنية الصمت/ العزف، بل كان يكسره عبر التغيّرات الإيقاعية في كل فاصل.
لا يحتفظ المشهد الموسيقي بتسلسل رتيب، وإنما يتحوّل إلى صياغة شعرية تُشكّل شخصيتها الموسيقى الشرقية على وجه الخصوص. بهذا الأسلوب، استطاع براهم نقل النغمية الشرقية إلى مسارح غربية، في مضمون عصري يقارب مقاماتها، وموسيقى الجاز مثلاً.
إلى جانب هذا، تتمتّع موسيقى صاحب "برزخ" بقدرتها على التلوّن (chromaticisme). ففي الوقت الذي يصمت فيه العزف على العود، يرتفع صوت الكلارينيت والكونترباص، ما يُنتج انتظاماً صوتياً لافتاً، يستقي جماليته من الجاز المفتوح على قالب تأمّلي شرقي فيه لمسات عربية (مشرقية ومغاربية)، مع مقاربات فارسية تنتمي إلى الموسيقى الصوفية، ويلاحَظ ذلك، بشكلٍ خاص، في الإيقاعات المرافقة لأعماله.
عموماً، لم تبدأ تجربة براهم مباشرةً مع موسيقى الجاز، وإنما بدأت في استلهام التراث الموسيقي التونسي، ثمّ راح إلى القوالب الشرقية، مثل السماعي واللونغا، ووضع عليها مقطوعات، خصوصاً في ألبوماته التي صدرت في بداية التسعينيات. لاحقاً، يُلاحظ المتتبّع لتجربة مؤلّف "مدار"، تأثّراته أيضاً بالموسيقى الهندية، والفلامنغو والتانغو.
هكذا، اتّخذت مسارات تجربة براهم توجّهات عديدة، جعل فيها مختلف الأنماط والأنواع الموسيقية وعاءً يختبر فيه قدراته ومحاولاته لمزجها، مرتكزاً على آلته الأساسية، العود، الذي يوازن هذه المسارات المُتناقضة أحياناً، المتأرجحة بين كلاسيكيتها ومعاصرتها.
حالياً، يستعدّ الموسيقي التونسي لاختتام جولته الأوروبية التي بدأها في العاصمة الإيطالية روما مطلع أيلول/ سبتمبر الماضي، بحفل موسيقي في مدينة لوغانو السويسرية في الرابع من ديسمبر/ كانون الأول المقبل.
يقدّم براهم توليفته الموسيقية إلى جانب كل من عازف البيانو الفرنسي فرانسوا كورتيه، والألماني كلاوس جيسينغ على الكلارينيت، ولاعب الكونترباص السويدي بيورن ماير، كما ينطلق في جولة فرنسية في نيسان/ أبريل من العام المقبل.
اقرأ أيضاً: باكو دي لوثيا: حياةٌ في تحوّلات السياسة والفلامنكو