أن تترجم، معنى هذا أن تقاوم. أو بتعبير أشد وضوحاً، أن تصبح الترجمة أداة تغيير اجتماعي. هذه أكثر المقاربات إثارة للاهتمام بدأ يشهدها ميدان أبحاث الترجمة، وهي تتحوّل إلى علم مستقل في السنوات الأخيرة، شرقاً وغرباً.
في هذا التحوّل، يبرز مفهوم "المقاومة" بشتى معانيها؛ التنوير وتغيير الاتجاهات الأدبية والتحديث، ومحاربة الرقابة والقمع والسطوة السياسية. ويبدو هذا المفهوم أكثر لفتاً للنظر وإلحاحاً، في الوسط الثقافي العربي، حيث ما زالت الترجمة فيه تعني التبادل الألسني أو الإبداعات الأدبية، وما زال يتجاهل ما فعلته الترجمة في تاريخها البعيد وما زالت تفعله حتى هذه اللحظة.
تتداول الآن أوساط ما أصبح يطلق عليها "أبحاث الترجمة" كتاباً بارزاً عنوانه "ترجمة، مقاومة، فعالية" بإشراف وتقديم أستاذة الأدب المقارن في جامعة ماساشوستس ماريا تيمتشكو.
يضم هذا الكتاب عدداً من الدراسات ترى الترجمات عناصر مركزية في النظم الثقافية، لا مجرّد عناصر مشتقة وهامشية؛ وترى فيها فعالية أخلاقية وسياسية وأيديولوجية، لا مجرّد تمارين ألسنية، وترى أن مجرد الاعتراف بفن الترجمة الأدبي كأحد الفنون الأساسية، يمنح صوتاً لما يتضمّنه الإبداع الأدبي من ابتكارات وأفكار ورؤى وأخيلة.
وتستفيض أستاذة أبحاث الترجمة والنظرية الأدبية في معهد التقانة الهندي في كانبور ميني جاندران، في مقرّر دراسي لها في شرح ما تسميها استراتيجيات الترجمة. وتوضح أن المترجم قادرٌ ما إن يختار نصاً للترجمة، وما إن يعتمد استراتيجية ترجمة، على فعل أمرين؛ المقاومة أو التخريب.
صحيح أن الأدوار التي يمكن أن يؤديها محدودة مقارنة باتساع مجال الكاتب الإبداعي، إلا أن بإمكانه القيام بدور يمكن أن يقوم به الكاتب أيضاً؛ دور المقاوم. وهذا هو الجانب الذي يتعرّض للإهمال بسبب طغيان الكتابات الإبداعية و"الأصلية" على أعمال الترجمة.
المقاومة هنا تعني معارضة أو مساءلة أفكار أدبية وثقافية وأعراف اجتماعية سائدة، ويمكن أن تكون على مستويات متنوعة. وأي مترجم جاد لا بد أن يسأل نفسه قبل أن يباشر مشروع ترجمة: لماذا أترجم؟ ماذا أترجم؟ لمن أترجم؟ وكيف؟ وستحدد الأجوبة تحديداً حاسماً نوع الترجمة التي ستأتي بعد ذلك.
تقول ميني جاندران إن قرار الترجمة، لا الكتابة، إذا اتخذه كاتب إبداعي، ذو دلالة بالغة الأهمية. وتضرب مثلاً بالكاتب الروسي بوريس باسترناك (1890-1960)، صاحب رواية "دكتور زيفاغو"، الذي اختار أن يتوقف عن الكتابة خلال عهد ستالين في روسيا السوفييتية، وكان هذا قراراً سياسياً، وفعل احتجاج ضد حكم لا يسمح بحرية التعبير، وكرّس نفسه بدلاً من الكتابة لترجمة سونيتات شكسبير، الشهيرة بموضوعات الحب والصداقة اللذين يتغلبان على الموت وسلطة القهر، وكانت هذه الترجمات رسائل أمل ملغزة أرسلها باسترناك إلى القرّاء النابهين.
وهكذا فإن استراتيجية ترجمة تستدخل أدباً أجنبياً يمكن أن تصبح استراتيجية مقاومة اعتماداً على السياق الذي تجري فيه، ويمكن أن تصبح استراتيجية تخريب أيضاً، كما تشهد تجارب فورة الترجمات من اللغات الغربية إلى العربية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي (ترجمات مؤسسة فرانكلين، ومنشورات منظمة حرية الثقافة الأميركية التي كانت قوام مقالات عدد من المجلات الثقافية العربية مثل "شعر" و"أدب" و"حوار").
مثال آخر يأتي به الأستاذ لورنس فينوتي، المترجم الأميركي والمختص بنظرية الترجمة، وصاحب كتاب "المترجم غير المرئي: تاريخ للترجمة"، مستمد من ممارسة الكاتب الإيطالي إيجينيو تاركيتي (1839- 1869). يرى فينوتي أن استراتيجية الترجمة لدى هذا الكاتب كانت أداة للخروج على الأفكار الأدبية الرائجة.
كان بوهيمياً وخصماً لأفكار الأدب الواقعي الإيطالي في زمنه. واختار استراتيجية استدخال الأدب الأجنبي بطريقتين؛ بالأسلوب واختيار النص الذي يترجمه. كان يختار متعمّداً نصوصاً لغتها أجنبية، وكذلك أسلوبها. وبهذا نجح في هدم سيادة الواقعية في الرواية الإيطالية، وكان أول من كتب رواية من النمط القوطي في إيطاليا، واستخدم هذا النمط بفعالية في رواياته.
وينسب فينوتي إليه تزايد اهتمام إيطاليا القرن التاسع عشر بالنمط القوطي، وتقويض الواقعية الإيطالية بأداة الأخيولي، وبفضله أصبح الأخيولي جزءاً لا يتجزّأ من حداثة الرواية الإيطالية.
كاتب آخر هو جون ملتون، يقدّم نموذجاً من نماذج الترجمات المقاومة من البرازيل، ممثلة بالكاتب جوزيه بنتو خناتو مونتيرو لوباتو (1882-1948)، الذي عززت ترجماته حركة الحداثة في البرازيل، وقاومت سياسات فاركاس جتولو المستبدة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين. وفي الفترة نفسها وما بعدها، تم استخدام ترجمات كلاسيكيات الأدب الغربي إلى اللغة الروسية كخطاب معارض لبعض من أشكال السياسات الثقافية السوفييتية، كما يوضح الكاتب براين جيمس بيير في مقالة له عنوانها "الترجمة الأدبية وإنشاء نخبة مثقفين سوفييتية".
ووسط كل هذا الدفق الغربي الطابع، بحثاً وتنظيراً، لا بد من الإشارة إلى صوت بارز في هذا المجال لأستاذة أبحاث الترجمة في جامعة مانشستر البريطانية؛ منى بكر، ذات الأصول العربية والناشطة في حركة مقاطعة الأكاديميات الصهيونية (هي غير منى بكر (1971-2017) عالمة تقانة النانو المصرية التي توفيت في ظروف غامضة في الرابع من آذار/ مارس الماضي).
تناقش هذه الأستاذة في مقالة لها تحت عنوان "الترجمة والفعالية: ظهور أنماط الجماعات السردية"، وجهاً آخر من وجوه الترجمة كفعل مقاومة. يُمثل هذا الوجه روابط وتجمعات مترجمين معاصرة ترجمت وثائق أخرستها مصادر الأخبار الغربية.
هذه الروابط التي تلقي عليها الضوء هي روابط متطوعين غير باحثة عن الربح، تعارض المصالح المتعددة الجنسيات، والعولمة والعسكرة، وتعمل على توسيع عملية تبادل متوازن أكثر للأفكار في العالم. وتضيف بكر إلى هذا إطاراً نظرياً يساهم في فهم حركات ترجمة من هذا النوع.
وفي ضوء كل هذا، يمكن القول أن علماً جديداً بدأ يبزغ، مستقلا، تتداخل فيه عدة فروع معرفية؛ نفسية، وألسنية، وأدبية، وأنثربولوجية، وأيديولوجية.. إلخ، ويثير أسئلة حول الأخلاق والجنسانية والهوية والأمة، مقيماً بذلك الترجمة كفضاءٍ جديد راديكالي لمجادلات وحوارات ثقافية، تشكل في النهاية ما يشبه استعارة تعبر عن التبادل القائم في العالم المعاصر كما ترى الأستاذة "سوزن بيسنت" أستاذة الأدب المقارن في جامعة يورك البريطانية.
* كاتب من فلسطين