أهوال ماراثون التعليم في مصر

10 سبتمبر 2017

طلاب مصريون في مدرسة في القاهرة (25/9/2016/الأناضول)

+ الخط -
بدأ الاستعداد لموسم الدراسة في مصر، ووجدتُ نفسي ألهث بعد أن دخلت الماراثون بدون سابق إنذار بعد قضائي ثلاث سنوات في السجن، لم أكن أعلم فيها حجم المعاناة التي تعرّضت لها أسرتي وحجم الأهوال التي تلاقيها الأسر المصرية عموما في رحلة البحث عن تعليم مناسب. وماراثون الاستعداد للدراسة في مصر هو سباق قاسٍ ليس فيه رحمة، فكل عام قبل بدء الدراسة تتصارع فيه الأسر المصرية من أجل الفوز بأكبر قدر من المستلزمات بأقل أسعار بعد الغلاء الفاحش الذي يزداد كل عام في مصر، الأقلام والكرّاسات والكتب الخارجية والأدوات المكتبية التي يتم استيرادها بالكامل من خارج مصر، يلي ذلك المعاناة مع إدارات المدارس والطلبات التعجيزية التي يطلبونها، ثم يبدأ العراك حول شراء الزِّي المدرسي الذي يتم تغييره كل عام من دون أسباب واقعية.
واليوم، زادت المدرسة التي فيها أطفالي قيمة المصروفات بشكل مبالغ فيه، على الرغم من أنها مدرسة تعاني من قصور كبير في جانب الاهتمام بالرياضة والموسيقى والمواهب. ولذلك حاولت البحث عن مدرسة أخرى في المنطقة نفسها، تكون مصروفاتها أقل، وفي الوقت نفسه، تهتم بالعملية التعليمية، بجانب الرياضة والمواهب. ولكن يبدو أني كنت أطلب المستحيل، فالمصروفات تتضاعف كل عام، بدون رابط في كل المدارس الخاصة في مصر، على الرغم من القصور في الجانب التعليمي أو المواهب أو الانضباط، أما المدارس الدولية الأميركية أو البريطانية التي قد يكون بها بعض التكامل في العملية التعليمية، فهي بالتأكيد أشبه بالحلم 
المستحيل بالنسبة للغالبية العظمى من الشعب المصري، وبالنسبة لي أيضا. قد يكون الحل إذن في المدارس الرسمية للغات المتميزة، والتي يطلق عليها في مصر المدارس التجريبية، وهي مدارس حكومية ذات مستوى تعليمي أفضل بقليل من المدارس الحكومية العامة، وتتميز بمصروفات معتدلة، لكنها تشترط شروطا شبه تعجيزية أو تبرعات إجبارية أو إعادة السنة الدراسية، أو توقيع مسؤول مهم في وزارة التعليم، وهي أمور تعتبر جميعها بعيدة المنال.
تقابلت مع بعض أقربائي في زيارات عيد الأضحي، وكان الحديث الأهم هو المعاناة والتعذيب الذي يلاقونه بسبب رحلة البحث عن فرصة لتعليم الأولاد، فقد كانوا مشغولين بإجراءات الحجز المبكر في مراكز الدروس الخصوصية قبل بدء العام الدراسي، فتلك المراكز (يطلق عليها سناتر) أصبحت أساس العملية التعليمية في مصر. وأصبحت أعداد الطلبة فيها تقارب أعداد الطلبة في الفصول الدراسية، بل وأصبح بعض المدرسين يشترطون إجراء اختبارات للطالب أولا قبل قبوله في ذلك السنتر، فقد أصبح التعليم في السنتر الخاص مع المدرس الخصوصي. أما المدارس الحكومية العامة فهي فقط وسيلة لتسجيل القيد وأداء الامتحانات التي هي مجرد محطة لتحصيل الدرجات التي يتقرّر عليها المصير بعد ذلك، وسعيد الحظ من لديه وساطة يستطيع بها الحصول على إجازة لابنه، حتي يتسنّى له التفرغ للدروس الخصوصية والمذاكرة في المنزل وعدم إضاعة الوقت في المدرسة.
المدارس الحكومية العامة في مصر كارثة كبرى بكل المقاييس، فبها تكدس في الفصول الدراسية التي قد يصل بها عدد الطلبة إلى المائة، ولا يوجد فيها أي شيء يمتّ للتربية أو التعليم بأي صفة، مظهر صارخ من مظاهر الفساد والإفساد، لا أنشطة ولا عملية تعليمية. وكان المدرّس يتقاضى قروشا قليلة لا تكفي للحد الأدنى من الحياة، فكان يضطر، في الماضي، لإعطاء دروس خصوصية، ثم أصبحت هذه الدروس الأساس، وأصبحت المدارس بالنسبة للمعلم مجرّد وظيفة حكومية مسجل فيها يحصل من خلالها على دخل ثابت، سواء قام بالتدريس أم لم يفعل، وسيلة يحصل بها على معاش نهاية الخدمة، وسيلة رئيسية للتعرّف على الطلاب الذين سيلتقي بهم بعد ذلك في مراكز (سناتر) الدروس الخصوصية. ولذلك، لا تتعجب إن قابلت طالبا أو خريج مدرسة ثانوية لا يجيد القراءة والكتابة، أو خريجا لمدرسة فنية صناعية، ولا يدرك شيئا عن المهنة التي تعلمها، فالطبيعي للأسف أصبح أن يجيب المدرس نيابة عن التلاميذ الذين يعطيهم دروسا خصوصية، أو يقوم بتسريب الامتحان لهم قبلها بأيام، بل هناك مدارس ابتدائية في المناطق العشوائية أو الريفية التي يعتمد النجاح كاملا على ما يدفعه الأهالي الفقراء للمدرس أو لمدير المدرسة، حتى يقوم بإنجاح الأبناء في الامتحانات. هذا إلى جانب ظاهرة الغش في امتحانات الثانوية العامة التي أصبحت ظاهرةً يتحدث عنها العالم كله، وتتطور وسائل الغش كل يوم مهما اتخذت الوزارة من تدابير، فامتحانات الثانوية العامة للأسف هدف، وليست وسيلة، بسبب نظام مكتب التنسيق الذي جعل الالتحاق بالكليات طبقا لمجموع الدرجات (العلامات)، وليس الميول أو المواهب، وهو ما أنتج خرّيجين لا يفقهون شيئا مما يفترض أنهم تعلّموه في الجامعة. ونظام التنسيق هو نظام عقيم وضعه جمال عبد الناصر، بحجة العدالة والمساواة ومجانية التعليم الجامعي، لكنه أدى إلى ما نعانيه الآن من وجود خرّيجين من الجامعة لا يفقهون شيئا ويضطرون للعمل في أي مهنة أخرى، أو حرفة ليس لها علاقة بمجال الدراسة.
قامت، قبل أيام، عاصفة من الانتقادات من المعلمين ضد وزير التربية والتعليم الجديد الذي صرح لصحيفة حكومية إن نصف المعلمين لصوص والنصف الآخر غير أكفاء. وكان هذا الوزير يرأس ما يسمى المجلس الأعلى لتطوير التعليم الذي يجتمع مع عبد الفتاح السيسي كل فترة، بهدف محاولة إصلاح التعليم. وعلى الرغم من تصريحه الذي أثار استياء المعلمين، إلا أن فيه جزءا كبيرا من الصحة، فالمعلمون في مصر فعلا غير أكفاء بسبب المناهج العقيمة التي تعلموها في الجامعات، وكذلك بسبب تخلف منظومة التعليم في مصر. أما ذو الكفاءة منهم، إلى حد ما، فيكون كل هدفه جمع أكبر قدر من المال عن طريق الدروس الخصوصية. لذلك لا يقوم بأي تدريس داخل المدرسة بذريعة أن الراتب قليل. ولكن، هل ينجح وزير التعليم الجديد الذي يتحدث كل فترة عن ثورة في التعليم وعن إصلاح شامل؟ لا أظن.
ربما يكون لدى وزير التربية والتعليم والتعليم الفني، طارق شوقي، أفكار جديدة، تطمح إلى إحداث تطوير حقيقي في منظومة التعليم الفاشلة والمدمرة في مصر، وربما يكون هذا هو 
السبب الذي جعل السيسي يتحمّس له، ويعينه وزيرا للتعليم، بعدما كان رئيس المجلس الاستشاري للتعليم والبحث العلمي، وبعدما كان مسؤولاً عن التطوير والتكنولوجيا في منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) قبل ذلك. ولكن ماذا تفعل أفكار إصلاحية أو ثورية أو جريئة وسط منظومة تعليمية عتيقة فاشلة، ترفض أي محاولة للتجديد وتحاربها، وماذا تفعل النيات الطيبة في منظومة تعليمية فاسدة، ترسّخ فيها الفساد منذ عقود طويلة، ترفض أي محاولة للإصلاح وتحاربها، فإن صحّت نيات الوزير، وكانت لديه أفكار جديدة لإصلاح التعليم، فلن تجدي مع ترسانة القوانين العقيمة منذ أكثر من نصف قرن، أو وسط مافيا الدروس الخصوصية، أو مع العادات المتراكمة والتقاليد والأعراف والأساليب التعليمية التي أصبحت راسخة. وماذا يفعل وزير قد تكون لديه أفكار بدون منظومة وبدون إطار أشمل، وماذا يفعل وزير قد تكون لديه بعض النيات الطيبة وسط منظومة حكم تعتمد على الفساد والإفساد وسيلة رئيسية للحكم، وماذا يفعل وسط بلد تدار بمنطق أهل الثقة وأهل التهليل والتطبيل هم الأولى من أهل الخبرة.
لن ينصلح حال مصر، ولن تتقدم إلا بإصلاح التعليم، وفي ظل استمرار هذا النظام الحاكم وهذه العقلية وهذه القوانين، ستكون أي جهود إصلاحية وأية محاولات أشبه بترقيع الثوب المتهلهل، وأشبه بالحرث في البحر.
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017