تحط الطائرة في الواحدة صباحا في مطار نواكشوط أم التونسي الدولي، الجو بارد ليلا، والمطار "الدولي" المتواضع يخالف التوقع إذا ما قورن بمطارات دولية أخرى في بلدان العالم. إن أحسن عنوان لقراءة نهضة بلد معين هو مطاراته وطرقه. نزلنا بسرعة، ثم تبخر المسافرون القادمون من الدار البيضاء وسط أهاليهم المنتظرين في الخارج.
غرقت في الإجراءات الإدارية، جاء الأمر ميسرا وسريعا، كان أفراد من قوات الأمن والجيش يشرفون على تنظيم القادمين ويوجهونهم. رحب بي كمغربي، هناك نوع من الحب المتبادل بين المغاربة والموريتانيين، يعود إلى تاريخ مشترك وطويل، فيه الوئام وفيه الخصام. فيه التنافس وفيه من يقود ومن ينقاد، وكان أن عرفت العلاقات الموريتانية المغربية الرسمية تشنجات كثيرة في العقود الأخيرة، ربما تكون قد هدأت الآن، أو أنها استقرت على ديدن معين: لا غالب ولا مغلوب في الصراع الإقليمي، فدكتاتورية الجغرافيا تفرض على البلدين الانصياع لها، وحوالي أكثر من 1500 كيلومتر من الحدود، ليس من الهين ولا من السهل تأمينها. لذلك ربما كانت ثالث أكبر سفارة في موريتانيا بعد السفارة الفرنسية والسفارة الأميركية هي السفارة المغربية، التي تقع في قلب نواكشوط، ببنايتها الجديدة ذات النمط المعماري المغربي التقليدي. بناية تشبه برجا محصنا.
ألقى الترحيب من طرف موظفي المطار، وأنجز معاملتي على وجه السرعة، وأخرج إلى فضاء المطار الخارجي، ها أنا الآن في نواكشوط، في هذه الساعة من الليل. لا أتوه كثيرا، إذ سرعان ما أجد صديقي الموريتاني ينتظرني، نتبادل التحيات، ونتوجه إلى سيارته المركونة في موقف رملي، وسريعا تنشأ الكيمياء الخاصة بين رجلين يلتقيان أول مرة بعد محادثات سابقة على الهاتف فقط.
كان يعرف المهمة التي جئت من أجلها بالتحديد، لذلك، وبحسه الإعلامي العالي، وضعني في المشهد العام للانتخابات الرئاسية. لم يكن أمامي وقت كثير، إذ وصولي تزامن مع آخر يوم في الحملة الانتخابية. كان عليّ أن أبذل جهداً كبيراً للظفر بشيء، قبل الصمت الانتخابي. وهذا لن يكون متيسراً إلا بمرافق جيد، يمسك بيديه مفاتيح المكان والأشخاص ولا يضيع في التفاصيل الزائدة.
وعلى مسافة حوالي 30 كيلومتراً من المطار إلى نواكشوط، كانت الخريطة السياسية تتوضح أمامي، وربما في تلك البرهة الزمنية اتفقنا على برنامج الغد. كان الصديق قد فرّغ وقته لي خلال هذه الفترة، وأنا مدين له كثيراً لذلك، يعود الفضل في ذلك إلى صديقة مشتركة بذلت جهدها كي تيسر مهمتي، وضعت أمامي شبكة علاقات، وتركتني أختار. في ذلك كنت أتبع حدسي فقط.
في وسط نواكشوط، كانت الحملات الانتخابية الليلية لا تزال مستمرة، وكان أنصار المرشحين مرابطين أمام الخيم الانتخابية لتمضية وقت مع سهرات فنانات موريتانيات ينشطن حملات المرشحين.
أغانٍ من التراث الموريتاني ومن فن التبراع، وأغانٍ فصلت سريعاً على مقاس المرشحين المتنافسين، خصوصاً تلك التي اتصلت بالمرشح الرسمي محمد ولد الغزواني، الذي صار رئيساً منتخباً بعد ذلك.
صوره الكبيرة على تقاطعات الطرق واللافتات التي تدعو إلى التصويت له، وعدد الخيم المنصوبة لصالحه، كل ذلك يؤكد مقدار الأموال التي رصدت لحملته، سواء من قبله أو من طرف داعميه.
فهمت منذ البداية أن المعركة غير متكافئة بين الطرفين، مرشح الحكومة، ومرشحي المعارضة. في الصباح أجريت محادثة مع إعلاميين وبعض الوجوه التي صادفتها في مطعم الفندق، كانت الآراء تشير إلى أن المعركة شرسة هذه المرة بين المتنافسين، خصوصاً أربعة منهم: المرشح الرسمي ولد الغزواني والمرشح المدعوم من طرف الإسلاميين ولد سيدي بوبكر، والوجه المعرض التقليدي ولد مولود، ثم الاسم الصاعد في سماء الحياة السياسية في موريتانيا بيرام ولد اعبيدي.
كان الجميع يتحدث عن بيرام هذا، الذي يحمل خطاباً سياسياً مفارقاً عن بقية المرشحين الآخرين، قوامه الانتصار للزنوج، ومحاربة الفوارق العرقية والدعوة إلى التصدي للعبودية ومخلفاتها. إنه خطاب قوي ومبني على "المظلومية التاريخية" التي حصلت خلال مسار طويل من تاريخ بلاد شنقيط، حيث شكلت العبودية جوهراً اقتصادياً واجتماعياً في هذا البلد الذي حكمه البيضان الأشراف والزوايا، واشتغل فيه السود إما في الجندية وإما في أعمال أخرى وضيعة كعبيد ومملوكين، وحتى حين جرى تحريرهم عبر محطات من التاريخ في العصر الوسيط، أثناء حكم الزوايا، فإن دورهم الاجتماعي ظل مرسوماً سلفاً.
ضد الرق
كانت تجارة العبيد مزدهرة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وكان الفرنسيون يرسون بسفنهم على الساحل الموريتاني، حيث يشترون العبيد ويشحنونهم إلى البرازيل وأميركا، بل إنهم في فترات معينة، تمكنوا من شراء حتى "البيضان" العرب وباعوهم في البرازيل، أثناء الحروب الشرسة بين إمارات الترارزة وآدرار وشنقيط. من غرائب الصدف أن يشكل هؤلاء في البرازيل حركة دينية هي امتداد لحركة الزوايا في موريتانيا بلاد شنقيط، لكن تلك الحركة لم تنجح، وجرى إجهاضها في المهد في البرازيل.
حركة إيرا
رغم أن الرق والعبودية مجرمان في موريتانيا منذ 1981، ومحرمان شرعاً من طرف رابطة العلماء الموريتانيين منذ 2015، ورغم أن البرلمان الموريتاني أصدر في 2007 قانوناً يجرم الرق والعبودية، وكان على رأسه آنذاك أحد الأرقاء، وهو مسعود ولد بلخير، إلا أن حركة إيرا، التي تعنى بتحرير العبيد، والتي يوجد على رأسها المرشح للرئاسيات بيرام ولد اعبيدي، تضمنت تقاريرها أرقاماً مناقضة، تؤكد أن ظاهرة العبودية ما تزال مستمرة في أوساط الحراطين، وأنهم بالتالي يتعرضون لكل أنواع السخرة والاستغلال.
يجد خطاب بيرام سرعة تجاوب بين جميع الأوساط، خصوصاً السود والطبقات الاجتماعية المقصاة، وينتشر مثل النار في الهشيم. وفي كل مناسبة انتخابية يصعد خطابه إلى ذرى السماء، رغم أن برامج الأحزاب الأخرى تنص في أدبياتها أيضاً على ضرورة تقليص الفوارق الاجتماعية والتصدي لانتهاكات حقوق الإنسان، إلا أن ذلك ليس كافياً ليضفي المصداقية على خطابها.
محاصرة ولد الغزواني
يقول محدثي، ونحن نقوم بجولة في حي الميناء: انظر إلى هؤلاء الناس، وأي وضع مزرٍ هم فيه، بأي لغة ستقنعهم بأهمية برنامجك الانتخابي، وبأن ما تقوله يعنيهم تحديداً. هم يريدون موريتانيا جديدة يكونون فيها أصحاب فرص مثلهم مثل البيضان، أما الخطابات فلا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تجيب عن هذا البؤس الذي يعيشون يومياته.
في حملة محمد ولد الغزواني، وقع حدث مريع، ترصده جمهور غفير من الشباب السود من أنصار بيراما، كانوا يهتفون في وجهه: بيراما بيراما. هاجموا سيارته ذات الدفع الرباعي، وأرغموه وفريقه الأمني على المغادرة.
كانت لحظة مؤثرة جداً، فبالكاد استطاع أن يفلت منهم. كان هؤلاء الشباب المعدمون في درجات قصوى من الهياج. توقعت أن يقع الأسوأ، وكنت أنظر إلى رجال الجيش وهم يتمنطقون بنادقهم ومسدساتهم. في الأخير، سلمت العاقبة. سجلت فيديو للواقعة، والتقطت بعض الصور، ثم غادرت مكان التوتر.
بيضان يطلبون الحماية
كنا نسير عبر الطرق المتربة بين الأحياء الهامشية الفقيرة هذه، في تلك الظهيرة الحارة. لا بنيات تحتية ولا شيء، فوضى عمرانية كبيرة، ربما يوجد لها شبيه، أو هي أفظع، في الأحياء الهامشية للمدن المغربية، التي نطلق عليها: مدن الصفيح.
في ليلة إعلان نتائج الانتخابات صاحت مقربة من أحد المرشحين المنافسين، طالبة الحماية. قالت للمرشح بيرام ولد اعبيدي، بشكل واضح، إننا نطلب منك ومن أنصارك أن توفروا لنا الحماية.
أحد الحاضرين نقل إلي استغراب من كان في المكان هذا الطلب. سألته إن كانت الآية قد انقلبت حتى يطلب البيضان حماية "الحراطين" لهم؟ أجابني: إن ذلك يعكس وعياً بتزايد القوة الاجتماعية لهذا المكون في النسيج الاجتماعي الموريتاني. فرغم التهميش فهم يوجدون اليوم كأمر واقع وكرقم ديمغرافي وازن جداً، ولا يمكن تجاهله إطلاقاً. فموريتانيا كدولة تحتاج إلى جميع مواطنيها، لذلك لا بد من مصالحة شاملة وليست شكلية.
في الطريق إلى الساحل، نلتقي وجوهاً من البيضان، نتبادل الحديث، نتعارف، يعلق أحدهم، على جماعات من "الحراطين" عائدين من البحر: لا بد من معالجة هذا الأمر، أقوله له كيف: يرد: بالاتجاه إلى المغرب. أخطأنا في إدارة الظهر للمغرب عندما توجهنا إلى أفريقيا السوداء.. انظر، هذه هي النتيجة، وهو يشير إلى جماعات شبان سود عائدين من البحر.
أجبته: أعتقد أن الأمور تعالج بطريقة أخرى، الواقع لا يرتفع.
في حي عرفات
في الساحل، نزع الرجل، الذي له موقف من سود بلاده، "دراعيته"، وذهب للعب الكرة مع شباب من الحراطين. لقد ذابت الفوارق فجأة في مساحة اللعب تلك. قلت لمرافقي: ألا ترى؟ أجابني: وهذا هو المدهش والعجيب في المجتمع الموريتاني، فجأة تذوب كل الفوارق ولا يعود للون الجلد من معنى.
نودع هذا الامتداد البحري، ونسرع في العودة إلى موعد مبرمج، حيث جولة أخرى في حي عرفات، الذي يقع على أطراف نواكشوط، الدخول إليه ليس كالخروج منه.
هذا الحي الممتد على بضعة كيلومترات كان في السابق رملاً خلاء، لكن الهجرات الداخلية إلى نواكشوط، حيث فرص الشغل، جعلته قبلة للباحثين عن عمل.
ثم بدأ الهجوم على هذه الأرض السائبة، كل من يأتي هنا يقتطع له مساحة من الأرض ويقيم عليها بيتاً. أرض بالمجان، ولكل الناس ومن مختلف تكوينات المجتمع الموريتاني. فكان أن تشكلت مدينة قائمة الذات قرب الحامية العسكرية الموريتانية للمدرعات، والتي خرجت منها الدبابات للانقلاب على الرئيس السابق ولد الطايع.
طرق رملية، وأحياء بدون شبكة صرف صحي، والكهرباء جرى التزود بها كيفما اتفق، البيوت ذات الطابق الواحد هي ما يهيمن على هذا الشيء العمراني المشوه، الذي يشكل امتداداً إسمنتياً لا طابع له.
هذه هي قصة هذا الحي العجيب، كما يقول مرافقي. وهنا يقع أكبر خزان انتخابي في نواكشوط، من يفوز هنا يفوز في ولايات نواكشوط.
الأزقة المظلمة تحول دون الرؤية الجيدة، والوحول التي تشكلها برك مياه الصرف تجعل المكان نقيض اسمه. وهنا أيضاً العالم السفلي لكل المظاهر المشينة والمستجدة على المجتمع الموريتاني. فالمعروف أن الموريتانيين طيبون ومسالمون، وهم أهل ترحاب واحتفاء، لكن ربما جاءت الهجرات التي تتعرض لها البلاد من مالي والسنغال والدول الأخرى المجاورة كي تزيد من حدة الضغوط، خصوصاً، وتدفع بالكثير من أمراض القاع الاجتماعي إلى السطح.
في تيارت وفي غيره من الأحياء في نواكشوط انتشار لافت لظاهرة المطاعم الشامية. هجوم السوريين ملحوظ، يليهم الأتراك. تنافس حاد بين المطعمين السوري والتركي، علاوة على انتشار بعض المطاعم المغربية.
مطعم باب مراكش، على طريق المطار، يشكل مجمعاً تقليدياً لأبناء نواكشوط، هنا يسهر أغلب الشباب حتى الفجر، حيث يقدم المطعم المغربي وجباته على مدار الساعة. عمال المطعم من السود الأفارقة القادمين من دول الساحل، أغلبهم يبحث عن فرصة في موريتانيا أو يتخذها طريقاً ومحطة للعبور إلى أوروبا من المغرب والجزائر.
تقول الفتاة المغربية التي تلتحف ملحفة موريتانية، وتشرف على صندوق المطعم، جئت إلى هنا قبل ستة أشهر فقط. أقول لها: ولماذا إلى نواكشوط؟ تجيب: الرزق آخويا.
ابنة مدينة مراكش، ذات العشرين ربيعاً، نشطة، مرحة، جلوسها أمام صندوق الأداء في شبه قعدة صحراوية، يضفي على وجودها لمسة خاصة. إنها تعرف عملها جيداً، وربما تستفيد من وضع المرأة الموريتانية في مجتمع تعتد فيه النساء بأنفسهن، في ثقة لا تجارى.