في خيمة عملاقة، لا تختلف أبداً عن فضاءات عرض الأفلام، جلس ما يربو على الـ 500 سجين على مقاعد متساوية، قبالة شاشة عملاقة. حدث هذا في سجن المرناقية في تونس العاصمة، يوم الأحد الماضي.
ولم يكن السجناء هناك ليشاهدوا على الشاشة أموراً تتعلّق بما تخضع له السجون العربية من ضوابط وقوانين، بل تجمّعوا من أجل فكرة واحدة: السينما. كان هذا افتتاح "أيام قرطاج السينمائية" داخل السجون، بعد يوم من الافتتاح الرسمي.
اختارت لجنة التنظيم أن يكون فيلم "في عينيا" للمخرج التونسي نجيب بالقاضي إحدى رسائل المهرجان لفاقدي الحرية والتائقين إليها من المساجين. يعرض الفيلم قصة لطفي، تونسي مستقر في فرنسا، تخلى عن ابنه المريض بالتوحد وزوجته، في تونس، ليقرر في لحظة ما العودة إلى بلده للاعتناء بابنه، بعد أن دخلت والدته في غيبوبة، وقدمت به أختها قضية في إهمال ابنه.
هنا، يشهد الفيلم نقطة التحول؛ إذ يقرر لطفي، الذي يجسد دوره الممثل الشاب نضال السعدي، أن ينتشل ابنه من حالته تلك، محاولاً أن يقدم له كل ما بوسعه بمفرده، لولا أن أخاه وخالة ابنه يعرقلانه في كفاحه المرير.
بأداء الطفل الرائع إدريس خروبي دور يوسف، ابن لطفي المريض، وإبداع سوسن معالج التي تمثل دور خالته في تصوير دراما الفيلم ولحظات الأزمة، يوغل العمل (ساعة ونصف) في رسم جولات العذاب والمأساة التي يعيشها الأب وابنه وملامح تشكل العلاقة التي نسجت بينهما، بكل ما في طاقة الأب من صبر ومقاومة والرغبة الإنسانية في داخل الطفل الباحث عن الأمان والفرح.
وعلى الرغم من التشظي الذي يعيشه لطفي وتقلبات حياته ومشاريعه، يتشبث بالعناية بابنه، بمفرده، ويرفض تركه في مركز العناية بمرضى التوحد؛ ذلك أنه يرى أن ابنه لا ينبغي أن يظل مع الموجودين هناك لأن حالته ليست بخطورتهم.
هنا يظهر العمل التوثيقي اللافت للمخرج نجيب بالقاضي، الذي قضى شهوراً في مراكز رعاية الأطفال ضحايا التوحد لرسم سلوكهم وسلوك عائلاتهم والنظرة التي يحملونها تجاه أبنائهم المتوحدين.
وبحضور نجيب بالقاضي وبطل الفيلم نضال السعدي، حظي السجناء الخمسمائة الذين جلسوا قبالة شاشة الفن السابع، في منظر يصعب أن نراه في السجون، بجلسة حوار مطولة أثنى عليها الحاضرون ووصفها بلقاضي بـ"أنها أمتع جلسة نقاش حظي به الفيلم منذ بداية عرضه خارج تونس".
وصرح نجيب بالقاضي لـ"العربي الجديد" بأن العرض جاء ليكسر الصورة النمطية حول السجناء بوصفهم منحرفين ومجرمين وبعيدين عن الثقافة والقدرة على النقد، لقد عكست أسئلة المتدخلين منهم حجم الوعي الذي يحملونه وبعد النظر الذي يمتلكونه ومكنهم من فهم الفيلم وإدارة النقاش.
كصحافيين، فوجئنا أيضا بحجم التفاعل الذي شهده العرض من قبل المساجين الذين رأوا في الفيلم فرصة لاستشعار الروح الفنية في داخلهم والتي تتعارض مع الجريمة والانحراف، حيث يقول أحد المساجين لـ"العربي الجديد": "لقد عشنا ساعة ونصفاً من الوجع والألم اللذين يوقظهما فينا الفن لمراجعة ذواتنا وبداية التخطيط لحياة ما بعد السجن، التي يفترض أن نعيشها بمسؤولية وأبعد من أي وقت مضى عن التورط في مطبات السجون والمشاكل".
الأهم من كل ذلك أن قدرة بعض المساجين على بناء المعنى الرمزي للفيلم وفك شفرات السيناريو المعقد؛ إذ يقول لنا جمال (اسم مستعار)، أحد المساجين الشعراء: "من المؤكد أننا لم نفهم الفيلم على ذات النحو، ولكنني أستطيع أن أحدثكم عن المعنى الرمزي لما كنا نشاهده".
يوضح محدثنا فكرته، قائلاً: "يمكننا أن نشبه الفتى المتوحد بالسجين، الذي يحكم عليه القدر بهذا العقاب، ليجد نفسه مرفوضاً من الجميع والكل يتوجس منه ويتحاشاه، وفي خضم معاناته تلك وتقلبات حياته المريرة، تتشبث به عائلته لوحدها وخصوصاً والديه، وتأبى أن تتركه أو تتخلى عنه رغم حالته الصعبة وتعقد أزمته".
اقــرأ أيضاً
يسترجع جمال مشهد لطفي الذي يمسك بابنه في لحظة انهيار باكياً ومردداً: "لماذا أنت هكذا؟ لماذا؟"، ويربطه بمشهد العجوز أمه في كل لحظة تأتيه إلى السجن باكية ومتحسرة على مصيره وحكم المؤبد الذي يواجهه.
ترك الفيلم في كل سجين أثراً مختلفاً بين من اكتشفوا السينما لأول مرة، ومن رأوا فيه قصة أبنائهم وعائلاتهم، وحتى من رأوا في استعادة لطفي ابنه دعوة لمراجعة أنفسهم وتغيير نظرتهم تجاه الأمور والحياة خارج السجن. يقول أسامة، سجين ثلاثيني: "لم أدخل في حياتي قاعة سينما، والآن هي من أتتني، لقد نبهنا الفيلم إلى أن الحياة ملكنا ويجب أن نقودها بالإصرار والعزيمة على مقاومة مغريات الشر".
يبدو من خلال حواراتنا مع بعض السجناء أن إدخال السينما إلى السجون عبر مهرجان قرطاج، وإتاحة لقاء القائمين على العمل وكسر الروتين اليومي في حياة السجن كسر لطوق الرهبة داخل فضاء سلب الحرية وهيكلية العلاقة العمودية بين السجين والسجان اللذين وجدا نفسيهما في علاقة من نوع آخر.
عرض الفيلم ونقاشه أتاحا للسجين فرصة التعبير عن نفسه وفرصة الظهور كإنسان لا كمجرم يجابه بالهراوات ويتعامل معه كشحنة من الأذى وكتلة من الشر يجب اتقاؤها. إلى جانب ذلك، فإن مشهدية السجين المثقف الحامل للمصدح والمتفاعل مع الفن والفنان من دون أية عوازل أو تفرقة، أبهرت من حضروا إلى المكان أول مرة، من صورة السجناء وهم يخطون السجاد الأحمر للجلوس في مقاعدهم إلى لحظة التحاور مع الصحافيين والضيوف وجهاً لوجه ومن دون رقابة.
ولم يكن السجناء هناك ليشاهدوا على الشاشة أموراً تتعلّق بما تخضع له السجون العربية من ضوابط وقوانين، بل تجمّعوا من أجل فكرة واحدة: السينما. كان هذا افتتاح "أيام قرطاج السينمائية" داخل السجون، بعد يوم من الافتتاح الرسمي.
اختارت لجنة التنظيم أن يكون فيلم "في عينيا" للمخرج التونسي نجيب بالقاضي إحدى رسائل المهرجان لفاقدي الحرية والتائقين إليها من المساجين. يعرض الفيلم قصة لطفي، تونسي مستقر في فرنسا، تخلى عن ابنه المريض بالتوحد وزوجته، في تونس، ليقرر في لحظة ما العودة إلى بلده للاعتناء بابنه، بعد أن دخلت والدته في غيبوبة، وقدمت به أختها قضية في إهمال ابنه.
هنا، يشهد الفيلم نقطة التحول؛ إذ يقرر لطفي، الذي يجسد دوره الممثل الشاب نضال السعدي، أن ينتشل ابنه من حالته تلك، محاولاً أن يقدم له كل ما بوسعه بمفرده، لولا أن أخاه وخالة ابنه يعرقلانه في كفاحه المرير.
بأداء الطفل الرائع إدريس خروبي دور يوسف، ابن لطفي المريض، وإبداع سوسن معالج التي تمثل دور خالته في تصوير دراما الفيلم ولحظات الأزمة، يوغل العمل (ساعة ونصف) في رسم جولات العذاب والمأساة التي يعيشها الأب وابنه وملامح تشكل العلاقة التي نسجت بينهما، بكل ما في طاقة الأب من صبر ومقاومة والرغبة الإنسانية في داخل الطفل الباحث عن الأمان والفرح.
وعلى الرغم من التشظي الذي يعيشه لطفي وتقلبات حياته ومشاريعه، يتشبث بالعناية بابنه، بمفرده، ويرفض تركه في مركز العناية بمرضى التوحد؛ ذلك أنه يرى أن ابنه لا ينبغي أن يظل مع الموجودين هناك لأن حالته ليست بخطورتهم.
هنا يظهر العمل التوثيقي اللافت للمخرج نجيب بالقاضي، الذي قضى شهوراً في مراكز رعاية الأطفال ضحايا التوحد لرسم سلوكهم وسلوك عائلاتهم والنظرة التي يحملونها تجاه أبنائهم المتوحدين.
وبحضور نجيب بالقاضي وبطل الفيلم نضال السعدي، حظي السجناء الخمسمائة الذين جلسوا قبالة شاشة الفن السابع، في منظر يصعب أن نراه في السجون، بجلسة حوار مطولة أثنى عليها الحاضرون ووصفها بلقاضي بـ"أنها أمتع جلسة نقاش حظي به الفيلم منذ بداية عرضه خارج تونس".
وصرح نجيب بالقاضي لـ"العربي الجديد" بأن العرض جاء ليكسر الصورة النمطية حول السجناء بوصفهم منحرفين ومجرمين وبعيدين عن الثقافة والقدرة على النقد، لقد عكست أسئلة المتدخلين منهم حجم الوعي الذي يحملونه وبعد النظر الذي يمتلكونه ومكنهم من فهم الفيلم وإدارة النقاش.
كصحافيين، فوجئنا أيضا بحجم التفاعل الذي شهده العرض من قبل المساجين الذين رأوا في الفيلم فرصة لاستشعار الروح الفنية في داخلهم والتي تتعارض مع الجريمة والانحراف، حيث يقول أحد المساجين لـ"العربي الجديد": "لقد عشنا ساعة ونصفاً من الوجع والألم اللذين يوقظهما فينا الفن لمراجعة ذواتنا وبداية التخطيط لحياة ما بعد السجن، التي يفترض أن نعيشها بمسؤولية وأبعد من أي وقت مضى عن التورط في مطبات السجون والمشاكل".
الأهم من كل ذلك أن قدرة بعض المساجين على بناء المعنى الرمزي للفيلم وفك شفرات السيناريو المعقد؛ إذ يقول لنا جمال (اسم مستعار)، أحد المساجين الشعراء: "من المؤكد أننا لم نفهم الفيلم على ذات النحو، ولكنني أستطيع أن أحدثكم عن المعنى الرمزي لما كنا نشاهده".
يوضح محدثنا فكرته، قائلاً: "يمكننا أن نشبه الفتى المتوحد بالسجين، الذي يحكم عليه القدر بهذا العقاب، ليجد نفسه مرفوضاً من الجميع والكل يتوجس منه ويتحاشاه، وفي خضم معاناته تلك وتقلبات حياته المريرة، تتشبث به عائلته لوحدها وخصوصاً والديه، وتأبى أن تتركه أو تتخلى عنه رغم حالته الصعبة وتعقد أزمته".
يسترجع جمال مشهد لطفي الذي يمسك بابنه في لحظة انهيار باكياً ومردداً: "لماذا أنت هكذا؟ لماذا؟"، ويربطه بمشهد العجوز أمه في كل لحظة تأتيه إلى السجن باكية ومتحسرة على مصيره وحكم المؤبد الذي يواجهه.
ترك الفيلم في كل سجين أثراً مختلفاً بين من اكتشفوا السينما لأول مرة، ومن رأوا فيه قصة أبنائهم وعائلاتهم، وحتى من رأوا في استعادة لطفي ابنه دعوة لمراجعة أنفسهم وتغيير نظرتهم تجاه الأمور والحياة خارج السجن. يقول أسامة، سجين ثلاثيني: "لم أدخل في حياتي قاعة سينما، والآن هي من أتتني، لقد نبهنا الفيلم إلى أن الحياة ملكنا ويجب أن نقودها بالإصرار والعزيمة على مقاومة مغريات الشر".
يبدو من خلال حواراتنا مع بعض السجناء أن إدخال السينما إلى السجون عبر مهرجان قرطاج، وإتاحة لقاء القائمين على العمل وكسر الروتين اليومي في حياة السجن كسر لطوق الرهبة داخل فضاء سلب الحرية وهيكلية العلاقة العمودية بين السجين والسجان اللذين وجدا نفسيهما في علاقة من نوع آخر.
عرض الفيلم ونقاشه أتاحا للسجين فرصة التعبير عن نفسه وفرصة الظهور كإنسان لا كمجرم يجابه بالهراوات ويتعامل معه كشحنة من الأذى وكتلة من الشر يجب اتقاؤها. إلى جانب ذلك، فإن مشهدية السجين المثقف الحامل للمصدح والمتفاعل مع الفن والفنان من دون أية عوازل أو تفرقة، أبهرت من حضروا إلى المكان أول مرة، من صورة السجناء وهم يخطون السجاد الأحمر للجلوس في مقاعدهم إلى لحظة التحاور مع الصحافيين والضيوف وجهاً لوجه ومن دون رقابة.
يقول أحد السجناء: "ما يسعدنا اليوم أننا شعرنا بأننا غير منبوذين وأننا نحصل على حقوق وتجارب قد لا تتوفر لبعضنا في الخارج، فقريتي لم تحظ يوماً بقاعة سينما ولم نقابل مشاهير في حياتنا ونتبادل معهم النكات كما الآن".
محال أن تختزل ساعة ونصف أو ساعتان ألمَ سجناء يقضون محكوميات طويلة، ولكن رسالة السينما ولحظة الدهشة قادرتان على إعادة تشكيل الوعي أو تقويمه أو تأطيره. في فترة النقاش، يقف أحد المساجين متفاعلاً مع حديث نضال السعدي عن مسيرته في التمثيل، ليقول: "حياتي لن تنتهي هنا. وأحلامي لم تدفن بعد، سأعلنها صراحة؛ أنا أهوى التمثيل وحلمت به طويلاً، ولكنني الآن فقط أدركت أنه بإمكاني أن أكون ممثلاً، إذا ما خرجت من هنا".