التناشز الحضاري، بمعنى حدوث تناقض بين أنماط وأساليب حياة مستقرّة هادئة تكاد تكون مثالية في نظر أصحابها، وبين أنماط وأساليب تفرضها ظروف مستجدّة اقتضاها الخروج إلى عالم غريب متنوّع وأشد اختلافاً، أمرٌ طبيعي ومألوف، وهو ليس وليد اليوم بل وليد أي يوم يحدث فيه مثل هذا اللقاء أو الصدام أو الانكشاف.
لولا وجود ضرورات حياتية ملحّة كامنة في طبيعة الحياة نفسها، ترفض البقاء تحت سقف الانسجام والتناغم بعيداً عن التدافع والتناشز، لما كان لهذا التناقض أن يظهر، ولا لآثاره المؤلمة في غالب الأحيان أن تتجلّى. هذه الضرورات لا تتبادر إلى الذهن غالباً، بل تتأخر وتتقدّمها الآلام والمخاوف والمتاعب والقلق، فيبدو الأمر غير مفهوم وغير عقلاني. بينما لو تقدّمت الضرورات جاعلة التناشز أمراً مفهوماً لاتّخذ التناشز والصراع النفسي والاجتماعي منحى مختلفاً، ولاتّخذ القلق منحى خلّاقاً بدل أن يكون هاجساً أو مسّاً مرضياً.
هنالك تبعات للبقاء على وجه الأرض أو لمحاولة البقاء، ولعلّ هذه هي أولى الضرورات التي تجعل التغير أمراً واجباً ومفهوماً، فتبعة أن يبقى الكائن في ظروف مهددِّة يقتضيه تغيير أساليب الإدراك وطرق العيش والتناسل. يحدث هذا في الطبيعة كما يحدث في الجانب الإنساني. ولكن طرائق وعي هذه التبعات تؤدي دوراً مهمّاً في جلاء نوعية النتائج.
ما الذي يقال عن هذا التناشز الذي يلمّ بأطراف الحياة؟ يقال، بعد الاعتراف بوجوده وطبيعة هذا الوجود، إنه تناشزٌ بين المعتقدات ومتطلّبات الحياة في هذا العصر الذي انتقلت موازينه الحقّة، أو موازينه السليمة، إلى أرض أخرى، وظلّت لنا منه موازيننا الصغيرة الباعثة على الرثاء، أو يقال إنه انتهاكٌ لوجودنا الآمن أبداً على الإطلاق، وإنه عدوانٌ غامض مصدره آلة جهنمية نسميها العصر الحديث أحياناً على أكثر خصائصنا العزيزة قرباً من نفوسنا، أو يقال إنه نابعٌ من فشلنا في التوفيق بين ما نحسّه وبين ما نراه، أو بين ما نعرف وبين ما نسلك بمقتضاه، أو بين الماهية والوجود الحادث، فلنأخذ إذاً بفلسفة معقولة، كأن تكون الوضعية المنطقية، أو التقانة العلمانية.. إلخ.
كل واحد من هذا الذي يقال يتبعه سلوكٌ محدّد تجاه الذات وتجاه الزمن الذي نعيش فيه، فيشعرنا بعضه أننا نعيش مرغمين في انتظار زوال الغمّة، ويشعرنا بعض آخر أننا فقدنا الخيط والعصفور، وعلينا البحث عن طائر آخر وخيط آخر، ويشعرنا بعضه أن من المحال، بعد أن بلغ منا الخواء مبلغه، ملء فراغنا بغير هذه الوصفة أو تلك.
التناشز واقع قائم، وواقع الإرغام أيضاً، أي الضرورات، والشعور بالخواء أمرٌ ملموس في أبسط حالات المواجهة بيننا وبين العصر الحديث. وبالفعل، يبدو أحياناً أننا لم نفقد الخيط والعصفور فقط، بل وفقدنا القدرة على تخيّل أي نوع من الطيور كان يحلّق في أحلامنا.
ويظل السؤال الجوهري قائماً؛ كيف تدار هذه الأزمة على الصعيد الثقافي أو الحضاري، أي على صعيد وجودنا بكل جوانبه؟ من أول مبادئ إدارة الأزمات أن نعي أبعادها، أن نقلّل من أضرارها، أن نستفيد من دروسها، والأكثر أهمية أن نعترف بوجودها.