لم يأت الصيف في هذه الأيام. هذا ما تُعلنه السنابل الأرجوانية، والأخرى الصفراء، والأوراق البرتقالية اليابسة والعملاقة. هي لا تزال شريدةً تلك السماء، تلك التي تنعم علينا بالضوء الأخضر الأبيض. ها هو يهطل من بين غيومها. أمشي ملاحقاً نفسي، بل أركض تحت عتمة البلاط الرمادي.
أمّا هو، فالأسلوب الذي يتبعه بالركض لا يُوحي بدعسة القدمَين، بل هو أشبه بصوت الـ"تك" عند عصفور القرقف. الـ"تِك، تِك- تِك، تِك، تِك- تِك"، وهكذا دواليك، قرقفاً بقرقفٍ. يصرخ بصوتٍ أخضرٍ مرٍّ لا يسمعه أحد. لقد ضاع بين ضجة المارّين والباقين.
تتحوّل صرخته إلى ركضٍ، ويتحوّل الركض من السير على قدمَين إلى صوت يصدى، وتتحوّل الصرخة إلى صرخة مكتومة، أي إلى بقعة، إلى ذراع تمرّ، ركضاً، من عليّ. ممارسة الركض هذه هي ممارسة أفقية، وأشعة الشمس تصقل من الطرف الآخر.
ظلال الشعر والقرف تتقعّر في وجهه، وفي أطراف ركبتيه، حيث يتكرمش بنطاله فاقد اللون، وفي مفاصله. ذلك السيل الطيّب من اللعاب والمستنقعات والعرق يجعل البرد يتحلّى بالثوب الخانق، ويجعل النهار يتحلّى بثوب من الأوراق الرطبة. يرتدي معطفاً حاجباً للصوت. الصوت يركض وأنا أركض معه. الصوت يمرّ من فوق لحم الكائنات. بين غصن وغصن، طيور سوداء. هناك من، هناك إلى. يصرخ بين قهقهة وأخرى: عليّ الاختباء بين الأخضر الرطب!
العصافير للشجر كالشوارب للأفواه: ترسم الابتسامة على وجه الأخضر. يقف فجأة. ينظر إلى كساء من الغيوم العالية العالية، البعيدة البعيدة، ويركض من جديد على طول الخطّ الأبديّ في المستطيل الأخضر.
هناك حديقة مصطنعة، ضيّقة، زرعوها هناك منذ القدم واستحمت حديثاً. يمشي في وسطها، في يومٍ من أوراق المانغا، على طول مسلك تصطفّ على جانبيه الحصى والمستنقعات ونرجس يصرخ بالصفار. يراها هناك، وهو يمشي، معلّقة على أغصان شجرة الجوافة: الأجربة الثلاثة والطنجرة المحشوّة بالطعام.
طنجرة ولقت غطاها، وتغيب القطة وتلعب الفارة.
كالناعم وسط الخشونة، كقشرة حبة المانغا على الشجرة الداكنة، يتمكّن من سرقة دمية القماش وقميصين وجدهما داخل الأجربة، ويأخذ معه الطنجرة، ويهرب، بسرعة. من شدّة حذاقتهم لم ينبهوا له. لكن، على قول المثل، الطعام من ذهب. لقد رأوا شيئاً يتحرّك بين أوراق الشجر، كان على شكل صورة رقمية لبصمة الأصابع. رأوا الغيمة الخضراء وهي تتّسع. لكنّهم، وهم يقتربون من موقع الجريمة، بالكاد يجدون قطة حائرة تتسلّق غصناً لتبحث فيه عن عشّ ضائع.
أما هو، فيستلقي على الأسفلت الطازج في رطوبة بيته الآمن، المغلق بورقة مزّقها من علبة كرتون.
هو صحيح اللعاب غلّاب، يغنّي لنفسه. الجوع كافر والأرزّ كافر. في موقعه، تحت الجسر الذي يعتمره كالطاقية، الشمس تغرب عرقاً. لكن لا يزال هناك متّسع من الوقت للغروب. يلتهم البيضة المسلوقة، كالشمس، في الخفية. قرص يصبغ الأخضر، آخذه نحو الصفار، نحو الحرّ العاري. الألوان، في هذه الساعة، تتلطّخ بوتيرة أسرع.
تغريدة بتغريدة وبعيون دامعة، حمراء. في ساعة الزحمة، كمشة بنيّة تسيل عند قدميه. يلتقطها بيديه، يلحسها، ويخرج من فضاء ظل الجسر كالطير الجريح، باحثاً عن شجرة. لكنّه لا يريد أن يختار أي شجرة. يتوقّف عن الحركة، يشلحه دون اكتراث. يفرج عن مؤخّرة ناعمة وسمراء. إنها لمؤخّرة أنيقة، هادئة، تلغي صوت قرع طبول الأضواء حوله. يتّكئ ظهره على الشجرة الحلزونية في وسط الأذن العملاقة بالضبط. على يساره: شجرة عرف الديك بتيجانها الحمراء التافهة. على يمينه: حصان نحيف، لونه بين رمادي وبنّي، يرعى العشب الأصفر.
وهو في الوسط داخل إطار من الهواء، والهواء، كما نعلم، هو عبارة عن غطاء طنجرة مُزخرف بأشعة الضجّة ولولباتها الحلزونية. يبدو أن الكمشة كانت كافية، فلا تلاحظ على وجهه ملامح الاجتهاد. بين زمامير السيّارات يسرح فكره إلى السماء، السماء التي ستجعل من الضوء معدة، عمّا قليل.
أركض تحت أشجار الغروب، بينما الماء، جسراً بجسر، يجيء بالليل.
* Mario Ángel Quintero شاعر وكاتب قصة كولومبي من مواليد 1964، تُمثّل تجربته التيار الجديد للكتابة في بلده.
** ترجمة عن الإسبانية شادي روحانا