أُمّ مهملة!
لم أستطع منع نفسي ذلك اليوم من البكاء تأثرا بهذا الصبي الذي طالما أحببت.. (أحمد) مثال للتلميذ المهذب والمجتهد.. طفل مميز، حاد الذكاء ليس مغرورا، حساس، ذو أخلاق نبيلة رغم صغر سنه، فهو يساعد أصدقاءه دائما، ويهتم بكل شيء في الصف.. كنت أنا والناظرة وحتى بعض التلامذة نعتمد عليه في الكثير من الأمور، وكان دائما يلبي ما يطلب منه من دون تأخير.
في 21 مايو/أيار الماضي كان احتفال توزيع الشهادات للطلبة المتفوقين.. حاز أحمد المرتبة الأولى من حيث الدرجات، ونال رتبة إضافية لسلوكه الرائع..
بدأ نهارنا يومها بحماس شديد كسا جميع التلاميذ، ومنهم أحمد الذي كان يرتدي الزي المدرسي -وهو عبارة عن قميص مخطط باللونين الكحلي والأبيض، تلتف حول عنقه ياقة زرقاء وسروال من الكتان باللون الكحلي الداكن- وشعره الكستنائي الناعم ممشط إلى الجهة اليمنى؛ يلمع تحت أشعة الشمس التي كانت تغطي أجزاء عديدة من ملعب المدرسة حيث أقيم الاحتفال، وقد انهمك الجميع يحضرون مهامهم المطلوبة، أما أنا فقد حظيت بمرافقة عدد من الطلاب لتدريبهم على الصعود إلى المسرح، إضافة إلى ضبط سلوكهم أثناء الاحتفال بما أنني مربية صفهم.
فرح وحماسة عارمة.. كانت هذه المشاعر تطغى على معظم الحاضرين، أما أحمد فكان حماسه مختلطا بشيء من القلق، فرغم أنه لم يتجاوز التسع سنوات، إلا أنني كنت أعتبر هذا الطفل أكبر من سنه بكثير، لذا بدأت أصاب بالقلق نفسه شيئا فشيئا..
كان يجلس على المقعد بجانب زملائه مطرقا، يلهو بياقته تارة، ثم يقضم أظافره تارة أخرى.. كنت أبادره بابتسامة كلما التقت نظراتنا، وكان يردها بواحدة مثلها تخرج من بين شفاهه عنوة لطبعه الخلوق. وعندما قررت أن أستفسر عن السبب، لم يزد جوابه على أنه بخير متجنبا النظر إلي وكأنه يخشى شيئا ما.
بالرغم من قيامي بأعمال أخرى، إلا أنني لم أنغمس مع الباقين، فقد بقي جزء مني هناك يفكر بأحمد.. كان ينتظر شيئا ما.. تملكتني الحيرة والفضول لدرجة أنني فكرت في إجباره على البوح بما يجول في خاطره بأي طريقة، إلا أن الوقت كان غير مناسب، فأجبرت على السكوت والانتظار وانهمكت بتنظيم جلوس الأطفال، والاهتمام بما أوكل إلي.
حضر أهالي المتعلمين مزهوين بملابسهم الأنيقة وزينتهم البارزة، وامتلأت الكراسي البيضاء بالناس الذين بدوا كبستان زهور ملونة عن بعد، وكنت أنا قد وصلت إلى ضالتي، فقد عرفت أخيرا سبب شرود تلميذي الحبيب..
كان ينتظر والدته.. ها هو ينظر إلى الحضور مفتشا بينهم عنها.. لم تحضر إلى الآن.. بضع دقائق على تكريم ابنها. ليست ضمن أهالي صفه حيث خصصت لهم مساحة كافية! أي أمّ هذه التي تتغيب في مثل هذه المناسبة؟!
كان غضبي شديدا، ولم يكن تأخيرها اليوم هو الوحيد، فقد تغيبت عن كل اجتماعات الأهل طوال العام، وهي أيضا لم تحضر عيد الأم الذي ألقى فيه ابنها قصيدة جميلة، حضر لها كلمات رقيقة يومها.. أي أمّ هذه؟!
كثيرا ما أعددت العديد من عبارات الثناء على (أحمد)، وكنت أتوسم أن أعطي هذا التلميذ الذي كان دائما مبعثا للطاقة الإيجابية والروح الجميلة في صفي بعضا من التقدير أمام ذويه. ولأني أعلم أن أباه يعمل في مدينة أخرى ولا يستطيع المجيء، كنت دوما أنتظر أمه، فلمَ هذا التقصير والإهمال من جانبها؟
بدأ الحفل بالنشيد اللبناني، وتلته بضع كلمات وفقرات، ثم كان تكريم الطلاب.. ها هو أحمد يصعد إلى المنصة بتردد شديد، ترتبط عيناه باحثتين بين الحضور عن خيط أمل بأن يرى أحدا ما.. وجهه المتجهم وعيناه المكسوتان غلالة من الدمع الحار أدميا قلبي..
قدمت له المديرة شهادة تقدير وصفق له الجميع، فافتر ثغره عن ابتسامة وادعة لاجئة افترشت شفاهه قسرا، ثم نظر للناس وكأنه يعاتب أحدا ما، وانهمرت عيناه بالبكاء.
لم يفهم أحد ما يجول في قلب هذا الطفل الصغير من مشاعر لا يمكن تحملها، ولا أعرف لماذا لم أتمالك نفسي وقتها، فصرت أبكي معه بحرقة من دون توقف.. كم رغبت باعتلاء المنصة لأضمه وأخفف بعضا من معاناته، لا أعرف إن كان بكائي تعاطفا، أم أنني تعرضت لموقف إهمال مشابه في طفولتي فتذكره لا وعيي من دون إدراك واضح..
في تلك اللحظة بالذات، قررت أن أزور والدته في النهار نفسه كي أعلمها بكل ما سببته لابنها المسكين، ولأعلمها درسا لا تنساه حتى إن كنت سأطرد من عملي، فلتذهب كل المدارس إلى الجحيم إن كانت ستمنع معلمة طيبة مثلي من أخذ الثأر لطفل بريء مهمل، تتركه أمّه كاليتيم.
ذهبت بعد الحفل وقد أخذت العنوان من أوراقه الموجودة في ملفه من دون إعلام أحد.. وكنت مصممة على تلك المواجهة!
*****
في هذه الحياة يمكن توقع كل شيء! وما أسهل ابتكار عقولنا لآلاف الأفكار والتوقعات.. فالاحتمالات متعددة دائما، متشعبة لها أوجه لا تنتهي.. أما أن تكون (أم أحمد) مصابة بالسرطان تصارع هذا المرض في آخر مراحله وتحاول إبعاد ابنها عن رؤيتها تتألم قدر الإمكان، فهو ما لا يمكن توقعه أبدا من قبل معلمة قضت مدة طويلة بعد ذلك تحاول أن تغفر لنفسها ظنا متسرعا من دون استقصاء..