يوميات مواطنة لبنانية تحب الكتابة... اليوم الثاني
أمّا عن هذا اليوم.. فسأسميه "يوم الوضوح".. يبدو أن الألم النفسي سبب لوضوح الأشياء في حياتنا، فكما تُظهر الشدائد معادن الناس، تظهر الشدائد خبايانا أيضاً.
اضطررت اليوم للذهاب إلى المصرف وسحب بعض النقود لأمور تخص العمل، وكان لدي بعض الاستفسارات من الموظفة المسؤولة. بادَرَتني بأسلوب يتراوح ما بين السخرية والتذمر، والأهم أن نبرة صوتها كانت تقول لي بغير كلمات مسموعة، "هلا انتهيت أيتها البائسة!".
تابعت مهمتي. وما إن انتهيت، حتى وجدتني أقول لها بصوت مختنق وجدي: لم تكلمينني بهذه اللهجة؟ أسلوبك غير سليم. فدافعت عن نفسها محتجة: "ولكنني لم أسئ إليك بحرف". قلت لها: "لكن أسلوبك ولغة صوتك وجسدك أساءت". ومشيت.
كنت أشعر بالاختناق رغم ضآلة الموقف، وقد زادت ضربات قلبي وهرمون الأدرينالين وكأنني على وشك الانقضاض على أحدهم، ثم هبطت كل أجهزتي الدفاعية حيوية، لتبدأ مشاعر أخرى تحاول الظهور خلسة لولا تدخلاتي الطارئة.
قلت لنفسي قامعة ما عزمت عليه: "عليكِ أن تشعري بالفخر، لا بالضيق! لقد أظهرتِ حقك..". قررتُ منذ فترة طويلة أن أظهر جميع حقوقي التي كنت أتغاضى عنها بحجة أنني إنسانة مسالمة، وأنني متسامحة مع نفسي والآخرين، كنت أقنعها بأنني قادرة على المسامحة بغير حدود، عن تخطي أي إساءات تصدر تجاهي لأنني أتفهم دوافع الناس وظروفهم النفسية والاجتماعية، و.. ووو..
لا أعرف إن كان وضعي السابق يشبه وضع المواطنين اللبنانيين مع الدولة التى قاربت أن تفرض ضرائب على الأوكسجين والدخول إلى الحمام، من دون أي التزامات وخدمات محترمة بالمقابل، أو يضعني في مرتبة المواطن الذي يقوم بواجباته من دون أن يأخذ حقوقه رغم عدم وجوب اقتران هذين الأمرين، فبالرغم من أننا والحمد لله لا نقوم سوى بالواجبات المادية، وذلك خوفاً من مضاعفة العقوبات المالية التي تفرضها الدولة والتي تعرقل المعاملات التي نحتاج إليها لاحقاً، لكننا نتغاضى دائماً عن الواجبات الأخلاقية أو المعنوية لعل لها مصطلحاً آخر، كأن ننتخب من يستحق أن يحمل أصواتنا وهمومنا، أو أن نحافظ على ممتلكاتنا العامة كالأماكن البيئية مثلاً أو أقله أن نمنع ما يتمّ في حقها من انتهاكات واعتداءات وغيرها الكثير، فتلك نتركها فقط للمواطنين الأكثر تعقيداً وفراغاً من وجهة نظر البعض.
وهؤلاء في الحقيقة نوعان: الأول يدافع ويناصر قضايا وهموم الشعب على صفحات فيسبوك وتويتر وواتساب فقط، فتَراهُ يفهم في كل شيء، أما عند التنفيذ والقيام بالخطوات اللازمة للتغيير فهو خاضع لقول لبناني شهير يقول: "شو وقفت عليي"، أو قول آخر يقول "ما ممكن يتغير شيء بهالبلد". لكنه مع ذلك مستعد للقيام بمجازر فيسبوكية والدخول حتى في النقاشات التي يجريها الآخرون والمتعلقة بهذه المواضيع، فنجده مستعداً دائماً للإدلاء بأعظم التصاريح والتنديدات والاستنكارات.
أمّا النوع الثاني فهم الأقلية التي ما زلت أثق بأنهم لن يخذلوا أنفسهم قبل خذلان أي أحد يعتبرهم بصيص الأمل لجيل هاجر في معظمه بحثاً عن علاقة مواطنية بعيدة عن الطائفية والزبائنية المقزّزة.
لنعد إلى موضوعنا النفسي، وأصارحكم، أنني عادةً لا أتحدث في السياسة، ليس جهلاً، بل لأن العمل في السياسة أفضل من الحديث عنها، رغم أنني أختار بعض المواقع الكلامية على جميع المنابر للحديث حين يتوجب ذلك.
أما عن الأوضاع الاجتماعية والنفسية، فتلك منطقتي. لذا سأعود إليها، لا أعلم لما يعتقد الناس أن الذكاء مرهون بالطيبة، جميع الطيبين، وخاصة شديدي الطيبة، يتصفون بالسذاجة من وجهة نظر كثيرين. يعتقد الناس أن الطيب لا يعرف خبائثهم ونواياهم الحقيقيّة.
أود توضيح شيء مهم هنا: الطيبة لا تعني نقصاً أو قلة خبرة في الذكاء العاطفي أو في أي نوع من أنواع الذكاءات الأخرى، إنها تعني فقط "الطيبة". وهي التي تمنعنا في كثير من الأحيان من الرد على الإساءة بإساءة أخرى شبيهة لها، ليس لعدم المقدرة الحقيقية على القيام بذلك، لربما لدى البعض، وللأسف كنت منهم في السابق، يكمن الضعف في القدرة على التمسك بالحزم، وأرجو الانتباه إلى هذه الكلمة السحرية الجميلة، بل المُبهرة.. "الحزم"، إنه مصطلح يتراوح بين المقدرة على الرد المناسب، بحيث لا تسمح لأي مخلوق أن يسلب حقك، وألا تقسو أو تسيء في المقابل، فتتخلّى عن طيبتك وإنسانيتك التي تميّزك عن الآخرين.
يا أيها الحزم الجميل، أشكرك من كل قلبي.. لقد اتصلت الموظفة واعتذرت مني بعد دقائق، قالت لي: "لم أكن أعرف حضرتك، وقد فهمتِنِي خطأ، لذا أعتذر وأتمنى أن تتعاملي معي دائماً".
وقالت بعض العبارات التي تبرر فعلتها، وسمعت أنا، أو أردت سماع شيئين مهمين، الأول أنها عرفت من أنا، إذا لو لم أكن بمنصب معين، لكانت مضايقتي أمراً جائزاً ولم يكن هناك من داع لتبرير أسلوبها والاعتذار. عليكم ألا تكونوا مثل هذه المخلوقة التي تحكم على الناس من خلال مظهرهم أو رصيدهم البنكي أو منصبهم الوظيفي أو الاجتماعي، ببساطة لأنكم أولاً ستصنفون بالنسبة لي ولأمثالي على أنك "مصلحجيون".
وثانياً لأنني على يقين أن السبب الأول لا يهم كثراً منكم، وحيث إن إنسانيتكم العظيمة التي ميزتكم عن باقي المخلوقات لن تتراجع يوماً بعد يوم فقط، بل لأن الأقدار، وإن بدت غير عادلة، ولكنها تحمل لكم الكثير مما زرعتموه، فتخيّروا ما تشتهون حصاده!
ولكي أبتعد عن الوعظ الممل، لنعد إلى الشيء الثاني الذي سمعته، وهو أنها تعتذر، أي أنني استرددت حقي المعنوي إزاء سوء معاملتها.. ألا يستحق هذا أن نتخلى عن الضعف المقنّع بالطيبة الزائدة؟ تخاذلكم مع أنفسكم ضعف وليس طيبة!
لقد تحسن نهاري بعد هذا الموقف، أتمنى أن أسمع آراءكم في الموضوع، ودعوني أخبركم عن مدى سعادتي للتعليقات التي حصلتُ عليها سابقاً، وكان أجملها من قارئة لا أعرفها، راسلتني من خلال عنواني المنشور على رابط المقال في موقع "العربي الجديد"، كان لا بد أن أذكر لكم فرحي العامر وقتها، وكنوع من الابتزاز العاطفي غير المباشر لاستلام مزيد من رسائلكم التي ترفع معدلات السيرتونين عندي بشكل لا يصدق.
إلى يوم جديد!