إثيوبيا غير المبالية
شهد ملف سد النهضة الإثيوبي نقلة نوعية بإتمام المرحلة الأولى من ملء بحيرة السد، بحجم 4.9 مليارات متر مكعب من المياه. وعلى الرغم من ذلك، لم تتوقف المفاوضات برعاية الاتحاد الأفريقي. وبعد إحالة الملف إلى قمة قادة الدول الثلاث مع الرؤساء الأفارقة، أعضاء هيئة المكتب التنفيذي للاتحاد الأفريقي الذي يرعى التفاوض، فاجأت إثيوبيا الجميع، يوم الاثنين الماضي، بمقترح جديد ينظم مراحل الملء المتبقية وتشغيل السد خلالها، من دون تحديد قواعد التشغيل اللاحق بعد اكتمال الملء، وبلا إشارة إلى الجوانب القانونية الخاصة بمبادئ وآليات حل أي خلاف أو فض النزاعات، وبلا إجابة على تساؤلات القاهرة والخرطوم بشأن قواعد إدارة السد وجداول تصرّفات المياه في أوقات الجفاف والحالات الاستثنائية.
الجديد والمثير أن المقترح الإثيوبي الذي أغفل تلك النقاط الجوهرية بخصوص السد، وهو موضوع التفاوض، تناول إبرام اتفاقٍ شامل لتوزيع موارد المياه في النيل الأزرق وتنظيم الاستفادة منها. والمعنى المباشر والوحيد لذلك الاقتراح أن إثيوبيا تتجه إلى تغيير موضوع التفاوض وتوسيع نطاق المسار كله من سد النهضة نفسه إلى وضع المياه في النيل الأزرق ومستقبلها، الأمر الذي دفع الخرطوم والقاهرة إلى رفض المقترح، والاعتراض على الخروج عن نطاق المشكلة موضوع التفاوض، وقررتا تعليق المفاوضات أسبوعا انتهى أمس.
المحصلة أن المسار التفاوضي الرامي إلى إبرام اتفاق بين الدول الثلاث متعثر ويكاد يتوقف، بعد أن لم يُحرز تقدّماً يذكر. بل تحاول أديس أبابا الابتعاد عن جوهر الخلاف، واعتباره مجرد جزئية ضمن المنظومة المائية للنيل الأزرق ككل. ومقابل هذا الجمود التفاوضي، تسير مراحل تنفيذ سد النهضة حسب المخطط لها بدقة، وفي التوقيتات المحددة من دون تأخير، بدليل القيام بعملية الملء الأول في موعدها المقرّر سابقاً (يوليو/ تموز الماضي)، على الرغم من الاعتراضات المصرية والسودانية.
صحيحٌ أن جوهر الموقف الإثيوبي لم يتغير بعد الملء الأول، لكن الخطاب والأسلوب اختلفا كثيراً، فأصبح أكثر صراحةً وعدائية، بعد أن ظل سنوات خطاباً تهادنياً لتطمين القاهرة والخرطوم. كما تغير أسلوب إثيوبيا في إدارة الأزمة، بالانتقال من استدراج مصر والسودان نحو مسار تفاوضي مفتوح، وبلا قواعد أو أسس تحكمه، والتجاوب مع مساعي الدولتين إلى إيجاد صيغ للحوار وأطر تفاوضية للحل، إلى التعاطي مع ذاك المسار بمنطق الاستغناء وفرض الشروط.
خلال السنوات الست الماضية، كانت تطوّرات الملف تأخذ مسارين متوازيين: تنفيذ المشروع، والتفاوض حوله، فكانا يسيران معاً، على الرغم من أن التنفيذ كان أسرع ويتقدّم، بينما المفاوضات أبطأ وبلا نتائج حقيقية. ولكن يبدو أن خطوة الملء الأول ستغير من هذا التلازم بين المسارين، إذ تتجه مواقف إثيوبيا إلى عدم الاهتمام بالربط بين المسارين، بل الرغبة في الانسلاخ من المفاوضات، أو تفجيرها باستفزاز مصر والسودان. ولذلك، ظهرت عباراتٌ شديدة اللهجة إلى حد التبجح في الخطاب الإثيوبي. منها ما هو رمزي مثل "النيل لنا"، ومنها أيضاً ما يعكس موقفاً سياسياً رسمياً، مثل إعلان المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية، دينا مفتي، أن دولته لن تقبل توقيع "اتفاق ملزم يشترط تمرير حصص محدّدة للمياه من سد النهضة لدول المصب".
كانت أديس أبابا، في الماضي، بحاجة إلى تقبل مصر والسودان فكرة مشروع السد ومبدأ تنفيذه، من دون اتفاق أو كشف لمخطط المشروع. ولذا اضطرّت إلى الانخراط في المفاوضات لكي تستطيع تمرير مراحل التأسيس والبناء، بل والتشغيل المبدئي للمشروع. وبعد أن حققت ذلك بالفعل، واجتاز السد مرحلة الملء الأولي، طغى الغرور على رؤية إثيوبيا، فباتت تظن أنها تملك تغيير محتوى المفاوضات ونطاقها، وفقاً لرؤيتها المنفردة وتلبية لمصالحها وحدها. وعلى الآخرين الاختيار بين الانصياع أو الامتناع.