خلال أسبوع واحد، خرجت إسرائيل عن مسارها التقليدي في كل ما يتعلق بموقفها وسياستها تجاه الثورة السورية، والحرب الدائرة على أرض سورية، عندما اعترفت رسمياً بأنها صدت وأسقطت صاروخاً أطلق باتجاه مقاتلاتها، بعد مغادرتها الأجواء السورية عائدة من قصف مواقع في سورية.
لم يقف الخروج عن المألوف عند مسألة الاعتراف بالقصف، بل عند سيل من التصريحات المتتالية، بدأت من بيان الناطق العسكري لجيش الاحتلال، مروراً برئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن، أفيغدور ليبرمان، وقائد المنطقة الشمالية حتى يوم الغارة، الجنرال أفيف كوخافي، ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي، الجنرال غادي أيزنكوت، ورئيس الموساد، يوسي كوهين، وانتهاء بمدير مركز أبحاث الأمن القومي، الجنرال احتياط عاموس يادلين، ورئيس مجلس الأمن القومي السابق، غيورا أيلاند. ولعل هذه القائمة لأصحاب التصريحات، بما تحمل مواقعهم من دلالات، تزكي الأسبوع، بصفة الأسبوع السوري في إسرائيل، خصوصاً إذا أضفنا لها سيل التقارير والتحليلات في الصحف الإسرائيلية.
وإذا كان هذا كله غير كافٍ، فتنبغي الإشارة أيضاً، إلى استمرار تدفق التحليلات في الصحف الإسرائيلية لجهة التأسيس لتوجه جديد في الموقف الإسرائيلي، أو على الأقل في التقديرات الإسرائيلية، لمستقبل ما يجري في سورية، وميل بعض المحللين إلى القول إن الصاروخ السوري، كان نتاج تعزز ثقة النظام بنفسه، بفعل المظلة الروسية والدعم الإيراني، مقابل من ذهب إلى الاعتقاد بأنه مؤشر، خصوصاً في ظل غياب دور أميركي مواز للدور الروسي في سورية والمنطقة، لاحتمال تكريس بقاء النظام، سواء كان بشار الأسد على رأسه أم آخرون. لكن اللافت في كل هذه التحليلات والتصريحات، هو إصرار إسرائيلي على تأكيد حكومة الاحتلال أنها لن توقف غاراتها المستقبلية، إذا توفرت المعلومات، والفرصة العملياتية، بحسب تصريح نتنياهو، وتأكيده، خلافاً لما روج له البعض، وتحديداً النظام السوري نفسه، بأنه لا تغيير في الموقف الروسي من "حرية الحركة المتاحة لطيران الاحتلال في قصف مواقع وأهداف وقوافل سلاح حزب الله". وهو تأكيد أبرزه نتنياهو بشكل لافت بعد يومين من استدعاء السفير الإسرائيلي لدى روسيا.
مع ذلك، فإن الكم الهائل من التصريحات الإسرائيلية، والتي تمحورت حول مواصلة سياسة الغارات والاستهداف لقوافل أسلحة كاسرة للتوازن، رافقها أيضاً ترويج إسرائيلي لتنامي وتعاظم "الخطر الإيراني" في سورية، وسعي إيران إلى بناء ميناء بحري في اللاذقية، لقيت الاستفسارات الإسرائيلية عنه في موسكو رداً مبهماً تلخص في قول الروس، بحسب ما أورد أليكس فيشمان في "يديعوت أحرونوت"، إن روسيا نفسها بنت ميناء في سورية، وبالتالي لا يمكنها الاعتراض على قرار "دولة سيادية بالسماح لدولة أخرى ببناء ميناء في أراضيها". ويبقى التطور الأهم في هذا السياق، أن إسرائيل التي كانت تدعي أنها لا تتدخل بما يحصل في سورية، وتكتفي بقطف ثمار الثورة، كما حدث في تنازل النظام السوري عن ترسانته الكيماوية إزاء التهديد الأميركي له في سبتمبر/أيلول 2015، باتت تبعث إشارات قلق من تكريس إيران لوجودها في سورية، ليس فقط كطرف مساند للنظام، وإنما كصاحبة قواعد عسكرية، سواء أقيمت هذه القواعد في عمق سورية، على مقربة من جبهة هضبة الجولان، أم اقتربت من الساحل الإسرائيلي، في أعالي الساحل السوري، على هيئة قاعدة بحرية، تكون سفن إسرائيل الحربية وبوارجها، وحقول الغاز التابعة لها في مياه المتوسط، في مرمى صواريخ القطع البحرية الإيرانية، إذا رست الأخيرة في ميناء تخشى إسرائيل أن تبنيه طهران في اللاذقية.
وجعلت هذه التطورات، رئيس مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، الجنرال عاموس يادلين، يكشف في مقالة في "يديعوت أحرونوت"، وجوب تغيير الحسابات الإسرائيلية الإقليمية، وتغيير أهداف إسرائيل الاستراتيجية، ليصبح هدف دفع إيران وطردها من سورية وشواطئها الهدف الاستراتيجي المركزي، الذي يجب بذل كل جهد ممكن لتحقيقه، فيما يتحول موضوع منع وصول سلاح كاسر للتوازن إلى "حزب الله"، إلى هدف ثانوي. وفي ظل تعاظم الدور الروسي في المنطقة، مقابل الوهن الأميركي، أو على الأقل غياب دور ومعالم سياسة أميركية واضحة للإدارة الجديدة، يقترح يادلين وجوب تحقيق الهدف المذكور من خلال اتصالات ومباحثات سياسية مع كل من الكرملين والبيت الأبيض.
لكن السفير الإسرائيلي السابق لدى موسكو، تسفي مغين، اعتبر، من جانبه في مقابلة مع الإذاعة الإسرائيلية هذا الأسبوع، أن إسرائيل بمفردها لن تنجح في كسب ود روسيا على حساب إيران، لأن روسيا، خلافاً لإسرائيل، تعتبر إيران جزءاً من الحل وليست جزءاً من المشكلة. وفي هذا السياق، تقول ورقة تقدير موقف، نشرها مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، أول من أمس، ووضعها مغين سوية مع العقيد احتياط أودي ديكل، إنه على الرغم من عدم تطابق المصالح الروسية مع الإيرانية في سورية، إلا أن موسكو تجد صعوبات في الاستجابة لمطالب الولايات المتحدة بتقليص التأثير الإيراني في سورية، ناهيك عن شبكة المصالح الروسية الواسعة مع إيران، والتي تتمثل خارج الأراضي السورية، بقطاع الطاقة، وبيع السلاح الروسي إلى إيران... إلخ. وبحسب الورقة المذكورة، فإن الانتقال، بحسب التقديرات الإسرائيلية، في الأزمة السورية من مرحلة الاحتراب والاقتتال إلى مرحلة جديدة، تتم فيها بلورة ورسم ملامح سورية المستقبلية، كان وراء زيارة نتنياهو إلى موسكو، قبل نحو أسبوعين، واجتماعه مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، والذي حاول نتنياهو خلاله إبراز امتعاض ومعارضة إسرائيل للهيمنة الإيرانية المتبلورة في سورية وآفاق الوجود الإيراني المستقبلي هناك.
ووفق المنظور الإسرائيلي، وبحسب ما تكشفه ورقة مركز أبحاث الأمن القومي، فإن نتنياهو أعاد عملياً في زيارته الأخيرة إلى موسكو التشديد مجدداً على الخطوط الإسرائيلية الحمراء، وعلى رأسها منع نشر قوات إيرانية وأذرعها في جنوب سورية، قريباً من الحدود الإسرائيلية مع هضبة الجولان. ووفقا للمنظور الإسرائيلي، فإن روسيا تعتبر إسرائيل دولة ذات وزن إقليمي، وبالتالي فهي تقر بقدرة إسرائيل على التأثير في مجمل التطورات في الساحة السورية، وتسعى إلى تنسيق خطواتها مع إسرائيل، من خلال الامتناع، في الوقت ذاته، عن الاحتكاك العسكري، وهو ما يؤمنه التنسيق العسكري بين إسرائيل وروسيا وفق اللجنة التي كان اتفق نتنياهو وبوتين على تشكيلها في سبتمبر/ أيلول 2015، والتي تتولى هذه المهمة لغاية الآن. ومع إدراك روسيا للمخاوف الإسرائيلية، والرفض الإسرائيلي لتواجد قوات إيرانية، أو تابعة وخاضعة لإيران على الأراضي السورية، فإن روسيا، كما يقول مغين وديكل، لا تعارض التنسيق الاستراتيجي مع إسرائيل في كل ما يخص مستقبل الحيز السوري ككل. وتخلص ورقة تقدير الموقف إلى القول إن تصريح نتنياهو بشأن سياسة إسرائيل بمواصلة استهداف قوافل السلاح الكاسر للتوازن، واعتماد سياسة معلنة بهذا الخصوص يعكس قراراً إسرائيلياً بتكثيف التدخل الإسرائيلي في سورية، انطلاقاً من التقديرات القائلة إن موازين القوى تتغير ضد مصلحة إسرائيل. لكن السؤال، الذي يطرحه مغين وديكل، هو إلى أي حد ستتمكن إسرائيل من تحقيق هذه الأهداف، والثبات على الخطوط الحمراء التي وضعتها، من دون أن تهتز علاقاتها المميزة مع الكرملين، ومن دون أن تؤدي إلى تصعيد واسع النطاق على الجبهة الشمالية؟