إعلانات "الحق" المموّلة

23 يوليو 2019
+ الخط -
ثمّة تيار يتشكل، على مهل، من الباحثين والكتاب، المهتمين بالدراسات الإسلامية، ويبحثون عن قراءة جديدة، أو يحفرون للوصول إلى القراءة الأصلية، مخصومةً من إكراهات السياسي والاجتماعي، في ضوء النصوص وروحها ومقاصدها، وما يمكن أن تقدّمه لواقعنا، وما يمكن أن يقدّمه الواقع لقرائها. ثمّة تيار تفرضه الضرورة، وطبيعة الأشياء وقوتها، ولكن لا تظهره الإمكانات.
إذا كتبت على "غوغل" ما رأي الإسلام في كذا، فالنتائج التي ستظهر لا تعبر بالضرورة عن المزاج الفقهي لملايين المسلمين، في مصر وسورية واليمن والعراق وبلاد المغرب العربي، وغيرها، فضلاً عن الأغلبية المسلمة من غير العرب، إنما تعبر عن أفكار التيار الأكثر إنفاقا على الأفكار، والأكثر شراءً للذمم والعقول. المواقع الإلكترونية التي يُنفق عليها الملايين، لترويج المخدرات، تُرصد لها الميزانيات التي تأتي بمئات من مندوبي الأفكار، وتجنّدهم لتعبيد الناس. وسيحدث الأمر نفسه حين تذهب إلى "يوتيوب" للبحث عن محاضرة أو درس أو مقطع صغير يجيب عن أسئلتك، لن تجد المتخصّص، كما كنت تتصور، ولن تجد الباحث الذي أنفق العمر في دراسة قضية، إنما ستجد الأعلى مشاهدة، لأنه الأعلى صوتا وتسويقا و"أولتراس". وحين تسمعه، وتنتقل إلى الذي يليه ثم الذي يليه، وتجد الجميع يقول كلاما واحدا، مكرّرا، ومكرورا، وانتقائيا، سيصبح من غير المعقول، أو الخارق للإجماع، أن تسمع صوتا مختلفا يقول كلاما آخر، حتى لو كان ألصق بالدليل، وأنفع لك، وأقرب إلى واقعك، فهو نغمةٌ نشاز، ولو كان النغمة الوحيدة الصحيحة، فالكثرة تجعل من الغثّ سمينا ومن الصفيح ذهبا، ومن النشاز نغما، يتحوّل الحق إلى بضاعةٍ يقدر ثمنها بالكم لا بالكيف، بالكيلو، كم معك، وكم معي، من يساندك، ومن يساندني، كم عدد اللايكات التي حصلت عليها مقابل ما أحصل عليه، كم مشاهدة، وشير، وريتويت.. تضيع الحقيقة أمام منطق الإعلانات الممولة، ويصبح رابح صقر هو بليغ حمدي، وأحسن، إن أردنا، بفلوسنا!
الإنتاج أولاً، والباقي سهل. لم تساهم الوسائط المتعدّدة في تسهيل مهمة الوصول إلى الناس كما يتصور بعضهم، جرت السيطرة عليها بكتيبتين، كما يتندّر عبد الفتاح السيسي في مصر، كتائب التأييد الزائف، والرضا الكاذب، من ناحية، وكتائب المساندين المجانيين الذين يتصوّرون أنهم يساندون الحق، فيما يشتغلون ضد أنفسهم، وقضاياهم، ومصالحهم، وضد ما يعتقدونه، وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعا. المفارقة أن أصحاب النفوذ المرعب، والحضور الطاغي، وممثلي السواد، سواء في الإعلام المرئي، الاحترافي، إن صح أن لدينا أي شيء احترافي، أو مواقع التواصل وبرامجها التي تحولت بدورها إلى حديقة خلفية لبعض الأفكار التي يموّلها أصحابها ويروجّونها بوصفها مشروعاتٍ إعلامية عفويةً ومجهوداتٍ فرديةً ذاتية، فيما تقف خلفها مؤسسات وإمكانات حقيقية، تترجمها جودة الصورة، وطبيعة المادة، والقدرة على الاستمرار والانتشار والتأثير. هؤلاء هم أنفسهم الأكثر ادّعاء للمؤامرة عليهم، وطلبا لمزيد من الظهور، وأخذ الفرصة، بل ومعارضةً لمنح فرصةٍ، غير مماثلة، لمخالفيهم، ولو على سبيل التجاور لا الإزاحة، وتحريضا لأصحاب القوة، أيا كانوا، لإقصاء خصومهم لخطرهم المزعوم على البلاد والعباد، والدين والدنيا والآخرة. ولسان الحال يقول من دون مواربة: امنعوهم قبل أن يفهم الناس.
ليست دولة الفكرة، كما وصفها فتحي عثمان، في إشارة إلى الدولة الإسلامية كما يتصوّرها أصحابها، إنما هي فكرة الدولة، ومصالحها، توجّه الأفكار كلها، فتدور معها الأخيرة حيث دارت، فهل هذا هو حال زماننا وحده، أم أنه حال المعرفة، والأفكار، والرؤى والتصورات، في كل زمان؟ وكم من الأفكار التي وصلت إلينا عن أسلافنا، وشربناها تحت دعاوى "فهم سلف الأمة"، و"المعلوم من الدين بالضرورة" و"تلقتها الأمة بالقبول"، و"أجمع أهل العلم"، وغيرها من الأغلفة اللامعة، الجاذبة لعين المستهلك، تحمل أفكار الدولة في حاويات الدين، سواء كانت أفكاراً سياسية، أو أخرى اجتماعية، قد نتصوّر أنها لا تخصّ الحاكم في شيء، فيما هي إحدى أدواته للضبط الاجتماعي، وشغل الناس بأنفسهم، وإنهاك عقولهم بما لا يضره ولا ينفعهم.