هناك مجموعات من البشر تقف دوماً على حافة العالم، ليست أولويتها ما يحدث اليوم، تبتعد عن الصراعات البشرية وتحاول الفكاك من الواقع، وترسم صوراً لمستقبل البشرية، هم بين علماء يجربون غير المجرب، وفنانين حالمين يتجرؤون بخيالهم لأبعد مدى ممكن.
في مؤتمر دافوس الأخير، وبعيداً عن مفاوضات الاقتصاد والمناخ واللجوء، وبعيداً أيضاً عن هوس الأمن والحرب، كان هناك عنوان بارز تناوله بعضهم بخوف الجاهل وآخرون تجاهلوه لاعتقادهم بأولوية صراعات الحاضر.. إنها "الثورة الصناعية الرابعة" ومستقبل البشرية القادم.
حساسية كلمة "ثورة" جعلت بعضهم يتأفف من مجرد ذكر عبارات التغيير التي يدفع ثمنها لليوم، وانقسم العالم إلى نوعين فهناك المبشرون بخير وهم من دول البحث والعلم تلك التي تجاري الحاضر لعلمها بأن هناك مستقبلاً أجمل، ونبوءات بشر قادمين من دول تتمسك بالحاضر خوفاً من الانزلاق للماضي.
قرر الكبار أن البشرية تقف اليوم على أعتاب ثورة صناعية رابعة، هذه الثورة حاصلة بهم وبدونهم هي نتيجة طبيعية لتراكم العلوم.. ستنقل الإنسان الحديث إلى مستوى مختلف من التعامل مع كل شيء حوله بل وستنقله إلى مستوى مختلف من العيش والاحتياجات والهموم.
دفع العلوم بعضها بعضاً أشار إلى أن حصيلة التراكم العلمي الذي جمعه البشر في العشر سنوات الأخيرة يساوي 90% من ناتج حصيلة العلوم البشرية جمعاء.
الثورات الصناعية
بنيت الثورة الصناعية الأولى على المحرك البخاري في نهاية القرن الثامن عشر ورافقها خوف البريطانيين من إحلال تلك الماكينات مكان البشر، ثم انتقلت من جذورها في إنجلترا إلى عموم أوروبا والولايات المتحدة.
تلك الثورة نقلت البشر إلى وضع اجتماعي طبقي مختلف، وظهرت مصطلحات جديدة بين ضمان اجتماعي، وساعات عمل، ونقابات عمال، وأحدثت الثورة منافسة بين الدول الأوروبية في إبداع التصنيع وأشعلت إيماناً بقدرة العقل البشري أكثر.
أما الثورة الصناعية الثانية التي امتدت من الثلث الأخير من القرن الـ 19 وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، فقد قامت بفضل التطورات في الكهرباء والنقل والكيماويات والحديد، وانتشر التصنيع ووصل لليابان ولروسيا التي كانت تعيش حالة ازدهار في بداية الحرب العالمية الأولى.
ووصلت الثورة الصناعية الثالثة في نهاية القرن الماضي مع تصنيع وانتشار تقنية المعلومات مع أول حاسوب وأول بريد إلكتروني.
والوعد اليوم بثورة صناعية رابعة يتألف من التقدم الذي تم إحرازه في تصنيع الإنسان الآلي وربط الأشياء مع بعضها البعض عن طريق الإنترنت والبيانات الكبيرة وتقنية الهاتف النقال والطباعة ثلاثية الأبعاد.
التاريخ علمنا أن هناك نسبة من "العنف" ترافق أي تقدم بشري كبير، نتمنى أن نتجاوزها بأقل ظلم ممكن لبني البشر.
ما الجديد؟
لن أصف الاختراعات التي يمكن أن تنتج من هذه الثورة، فالباب مفتوح على مصراعيه والكل يغرف من مصادر العلم المتاحة والتنافس سيكون على أشده ولكن سأجملها في ثلاثة محاور عامة تصف المرحلة الجديدة.
سقوط الحاجز بين الواقع والافتراض
لم يعد هناك فرق كبير بين ما نعيشه من واقع وما هو موجود في العالم الافتراضي وكلاهما يعطي الآخر ويأخذ منه، المعلومات التي وضعناها بأنفسنا عن أنفسنا هي أيضاً لم تعد ملكنا فقط بل هي تتجاوز شبكات الأمن والحكومات إلى الاستفادة منها في منتجات تخدمنا.
التكنولوجيا لم تعد خادمة للإنسان بل شريكة له
نعم هي ستدخل في كل الأشياء من حولنا وستتحول من خادم لك إلى شريك، كتفها بكتفك وند لك أحياناً، محفز مرات ومنافس مرات، تلك اللوغاريتمات ستصبح أكثر ذكاء وأكثر تعقيداً وقرباً وفهماً للبشر، محاولة جعل حياتهم أفضل.
إنسان المستقبل المختلف
علينا أن نعي أن أبناء المستقبل مختلفون عنا في احتياجاتهم، فيما يضايقهم، وما يسعدهم، ويهمهم، المجتمع القادم هو مجتمع سيعطي معايير جديدة حتى لشكل الدول والحدود والتعامل مع الاختلاف في الأعراق والأديان وطرق كسب الرزق التي ستعتمد على طرق جديدة.
وتخوف الإنسان الحالي من فقدان آلاف البشر وظائفهم قد بدأ يتحول من تخوف لواقع وعلى الإنسان الحديث أن يفكر في العمل بذكاء أكبر وبشكل يخدم البشرية عامة.
ما هو إنترنت الأشياء Internet of Things؟
ما يميز مرحلة "إنترنت الأشياء" أنها ستتيح للإنسان التحرر من المكان، أي أن الشخص يستطيع التحكم في الأدوات من دون الحاجة إلى التواجد في مكان محدّد للتعامل مع جهاز معين.
مصطلح IOT، والذي سيتردد كثيراً السنوات القادمة، يُقصد به الجيل الجديد من الإنترنت، والذي سيتيح التفاهم بين جميع الأجهزة المترابطة مع بعضها عبر بروتوكول الإنترنت.
هو يهدف باختصار إلى جعل كل الأشياء في حياتنا قابلة للاتصال بالإنترنت ثم ببعضها البعض، ترسل وتستقبل بيانات لا محدودة من خلال هذه الشبكة.. ولا أسميها افتراضية فالحاجز بين الواقع والافتراض اتفقنا أنه سيزول.
ويتخطى هذا التعريف المفهوم التقليدي وهو تواصل الأشخاص مع الحواسيب والهواتف الذكية عبر شبكة عالمية واحدة ومن خلال بروتوكول الإنترنت التقليدي المعروف.
علاقتنا بهواتفنا
ذكرت دراسة صدرت في نهاية عام 2015 أن عدداً كبيراً من الشباب يفكرون في التخلي عن هواتفهم الذكية أو التقليل من استعمالها منذ الآن حتى عام 2021، لا سيما بسبب القدرة على استخدام التطبيقات التكنولوجية الحديثة في كل شيء يحيط بهم تقريباً وليس في الهواتف فقط.
وهذا ينبئ بتحول في علاقتنا بهواتفنا الذكية، فكل شيء سيكون ممكناً من دون الهاتف الذكي حيث بدا واضحا التوجه العام نحو العزوف عن الهواتف الذكية لدى الشباب تحديداً.
إضافة إلى أن تقنية التحكم في الأشياء من حولنا بالصوت بدأت تتطور جداً في تفاصيل حياتنا من محاكاة السيارة عند قيادتها إلى طلب الأشياء من هواتفنا بأمر الصوت.
نحن كعرب، وإن لم نملك من الحاضر إلا ذيله، علينا أن نثق أننا أمام مستقبل أكثر ترحيباً وعدلاً، فالتحدي القادم هو تحدي العقول، ولنعلم أن عالمنا الذي في عقولنا أوسع من كل العوالم .. فهو المستقبل .. والمستقبل قيد التأليف.
(فلسطين)