هي امرأة لا ككل النساء. أو لنقل هي امرأة لكل النساء. تجربتها تخترق مرحلة عصيبة وحساسة من تاريخ مصر والوطن العربي وتمنحه مذاقاً خاصاً لكل من تابع ذلك المسير. إنجي أفلاطون تجسيد حيوي للمرأة العربية المثقفة التي لم تكتف بالكتابة والنضال بل تتجاوزه إلى مجال ظل حكراً على الرجال ولمدة طويلة. فحين رأت النور في بداية العشرينيات، كانت مدرسة الفنون الجميلة الحديثة الإنشاء ومعها الفن المصري في تعْتعاته الأولى؛ وحين بدأت ترسم في الأربعينيات كانت كل قضايا العروبة والتحرر والحداثة قد طُرحت في الساحة العربية وصارت عبارة عن تيارات مُجهَضة تارة ومحمولة تارة أخرى على هوى سلاح العسكر أو الأحزاب القومية...
هل كانت إنجي تتصور أن مستقبلها سيكون منذوراً لقضية الكادحين وللتصوير التشكيلي، حين ولجت المدرسة الكاثوليكية، وحين انتبه أبوها المثقف العميد إلى موهبتها فخصّها بأستاذ للرسم في البيت؟ كل شيء كان ينبئ بهذا القدر الخصوصي. فلقد كانت الإسكندرية بانفتاحها وتعدديتها وآفاقها الثقافية والفنية المتنوعة موطناً لكل المفاجآت. وحين اطلع محمود سعيد على أعمالها واقتنع بالطاقة الثاوية في تلك الفتاة النبيهة، كلف كامل التلمساني بأن يكون عرّابها، فلم يأل هذا الأخير جهداً في تكوينها التكوين الصحيح. كان التلمساني في أواخر الثلاثينيات وبداية الأربعينيات منتمياً لحركة "الفن والحرية" (التي كانت أشبه بالقاطرة الطلائعية للفن العربي آنذاك). فقد حررت هذه الحركة الفن العربي من جمود التشخيص لتزج به في التعبير الرمزي السريالي الخارق لكل الحدود والمواضعات البصرية التي بُني عليها الفن العربي آنذاك، من واقعية ورومانسية وغيرهما.
وإذا كانت إنجي قد سايرت تلك الحركة وعرضت مع المجموعة أعمالها، فإن تلك الأعمال ما لبثت أن تحررت من الإرث الما فوق واقعي، مدفوعة في ذلك برغبة دفينة في تبني نهج نضالي أوضح وأشد عيانية. هل كان الفن مدخل هذه المرأة الأرستقراطية المنشأ للتقرب من الطبقات الدنيا في بلادها؟ فعلاً، كانت أعمالها في الأربعينيات والخمسينيات عبارة عن واقعية قريبة مما كان يعرف آنذاك بالواقعية الاشتراكية، تطرق موضوعات لا تهتم بالمرأة وإنما بعموم الكادحين. بيد أن أصالة الفنانة تكمن لا في الموضوع أساساً، الشيء الذي كرسه مجمل من قرأوا أعمالها، وإنما في تقنياتها وألوانها وتلاوينها. فلقد كانت التعبيرية ذات المنحى الواقعي والرمزي هي التركيبة الرؤيوية التي انتهجتها منذ دخولها للسجن في أواخر الخمسينيات، بحيث صرنا نعيش معها لحظات مشهدية لا تكتفي برصد المرئي وإنما بتحويله إلى لحظة اكتشاف واستكشاف.
قد يتساءل البعض، ولماذا هذا الاختيار بالضبط، لامرأة فنانة من تاريخ الحركة التشكيلية العربية، في مناسبة هي عيد (حقوق) المرأة؟ لا أخفي أني ظللت أكنّ لهذه الفنانة الكثير من الاحترام لقدرتها الباهرة على الجمع بين السياسة والفن والنسوية. إنه منزع نسوي اشتراكي يساري في وقت كانت فيه النساء (والرجال المثقفون) لا يزالون مغرقين في الليبرالية ثم في القومية. كانت أنشطة المرأة كثيرة، سواء في البيانات السياسية التي أصدرتها ("80 مليون امرأة معنا" و"نحن النساء المصريات"، أم في عملها الجمعوي. منذ الأربعينيات وإنجي أفلاطون تصرف قوتها وتوزعها بين الكتابة الصحافية والتشكيل والممارسة السياسية. وكأننا بهذه المرأة البورجوازية "المنتحرة طبقياً" تثبت أن الفن وحده لا يكفي، حتى وهو يصور معاناة الكادحين نساء ورجالاً، ويضع اليد على مواطن الخلل في الحياة الاجتماعية.
كما لا أخفي أن خفوت المنزع السياسي في الفن العربي (عدا الفن الفلسطيني والفن الغرافي) منذ الثمانينيات، وتشرذم الحركة التشكيلية العربية بعد البينالي العربي الثاني بالرباط (1976)، وانكفاء الفنانين على ذواتهم (بما يعنيه ذلك من ثراء تأملي)، وتراجع حضور التشكيل النسوي، وظهور التشكيل (النسوي) الفطري، لهي أمور تجعل من ظواهر من قبيل إنجي أفلاطون معالم تعبيرية ورمزية من اللازم إعادة قراءتها في ضوء التحولات التاريخية اللاحقة ومآلات الفن العربي الحديث والمعاصر. من ثمّ يمكن القول إن الكثير من الفنانات العربيات المعاصرات الشابات، في العقدين الأخيرين، سواء في لبنان أو مصر أو فلسطين أو تونس والمغرب (والأسماء كثيرة ووفيرة لا غرْو في ذلك)، هن بشكل أو بآخر سليلات هذه الفنانة المناضلة التي ما فتئت تزاوج بين طاقاتها في الكتابة والتعبئة والتشكيل... في وقت كانت فيه الصورة السينمائية أشد تأثيراً، والوعي السينمائي ما يزال رومانسياً وغنائياً وحكائياً، قبل أن يجعل منه هنري بركات وحسين كمال وصلاح أبو سيف وتوفيق صالح ويوسف شاهين، وعياً بصرياً جديداً سبقه بكثير الوعي التشكيلي في تناول القضايا الحساسة للشعب العربي.
ليس من باب الصدفة إذن أن تكون إنجي أفلاطون من الفنانات التشكيليات القلائل اللواتي عانين السجن في تلك الفترة. ففي 1959 لم يتوان النظام الناصري في الزج بالسجن بالشيوعيين والإخوان، معاً. وكان سجن القلعة وسجن القناطر وغيرهما تجمع حينها بين الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم وإنجي أفلاطون. وكما ألف الشاعر والمغني الكثير من الأغاني الخالدة في سجن القلعة، كذلك استطاعت إنجي أن تحصل على ترخيص خاص، وترسم باستمرار حتى الإفراج عنها سنة 1964. وهكذا ظلت ترصد حياة السجينات وراء القضبان ومعاناتهن وصارت تقنيتها أكثر عفوية وانفتاحاً على المعنى منه على رسم الشخصية. بل صارت شخصياتها أكثر حيوية بحيث إنها سوف تنزع في السبعينيات إلى تخفيف مساحة اللوحة واعتماد الفراغات التي تتنفس منها. هذه التقنية عبرت عنها كما يلي: "منذ عام 1984 استجمعت شجاعتي لمعايشة مغامرة جديدة وتركت بعض الفراغ الأبيض بين خطوط الفرشاة لاستدعاء التذبذب. وعرفت شيئاً فشيئاً أن ترك مساحة بيضاء يساعد في ذلك".
إنها فعلاً مغامرة جمالية تعبر عن انفتاح ذهنيتها الجمالية على الكينونة الثاوية وراء المرئي. من ثمّ، لم يأت اعتزالها للسياسة سوى تعبير عن هذا الانطواء الميتافيزيقي الذي يجعل من الفنان شاهداً ناقداً ومشاكساً حتى في صمته. كما لم يأت اهتمامنا بها هنا سوى توكيد منا على أن السياسي والأنثوي والفني معادلة ثلاثية اخترقت تاريخ الفن العربي، بحيث إن "صوت" إنجي اليوم "يتكلم" من خلال أعمال بنات جنسها، ويحمل صداه إلى عوالم جديدة لم يعد فيها التهميش والتدمير يمس المرأة والإنسان فحسب، بل كافة الكائنات الحية...