1
لم يكن الانتحار خياره في التخلّص من روحه القلقة والمتألمة، كان يدور في الشوارع حتى ساعات متأخرة من الليل، قلبه لا يهدأ عن إثارة قلقه، ورأسه المليء بذكرى الخيبات لا يتوّقف عن إعادة رواياتها مراراً عليه، حتى قامت الحرب، وجد أنها ستكون سكناً لروحه.
في البداية انضم إلى فرق الإسعاف، كان يحمل الجرحى ويعتني بهم طوال الطريق إلى المستشفى، يسمعهم يهذون بقصصهم، ويروون على مسامعه حكاياتهم الأخيرة، وصياتهم، والأسماء التي يريدون تذكّرها إلى الأبد. لكن هذا العمل لم ينقذه، فسماع الحكايات الأخيرة أقضّ سكينة مخادعة تأملها.
ترك عمله هذا والتحق بفرق الإنقاذ، تلك التي تقوم بإخراج جثث القتلى والمقصوفين من تحت الأنقاض، ظنّ بأنه لن يسمع شيئاً هذه المرّة، ستكون أجساداً انتهت حكاياتها للتو، لكنه رأى هذه المرة، ولم يسمع، رأى الأطفال وهم يُخرجون من تحت الأنقاض يحملون لعبهم الصغيرة، والأمهات وهنّ يبحثن عن أطفالهن في لحظات الحياة الأخيرة. ورأى الآباء الناجين، وهم يضربون رؤوسهم فيما تبقى من جدران، وهكذا فرّ من عمله هذا أيضاً.
قرّر بعد ذلك، الذهاب إلى الأحياء المهددة بالقصف، لجمع السكان وحكاية القصص لهم في الملاجئ المتخيّلة، في محاولة لتهدئة مخاوفهم. كان يروي ذات مرة حين قصفت البناية المجاورة فتهاوت الجدران على أجسادهم، لم ينج الكثيرون منهم، لكنه كان من الناجين، وهذا أضاف إليه بؤساً آخر، لكنه لم يترك عمله، صار ينتقل من حيّ لآخر يروي قصص الحياة للأطفال، وللفتيات المنتظرات آباءهن، وللشباب الذين كان على الحياة أن تكون لهم. وفي كل مرة كان يحدث قصف، كان ينجو، نجا كثيراً حتى شعر بالملل، وهكذا قرّر أخيراً الرحيل عن هذه البلاد وحربها، وكان يقول لكل من يلتقيه: حرب غبية! لقد جعلتني أنجو في كل مرة.
اقــرأ أيضاً
2
كانت تقول لأمها: انظري يا أمي، بهذه الطريقة أتخلّص من وهم عبور الحياة. أمها كانت تسخر منها وتتركها مستلقية على الأرض تحدق بالسماء، لكنها كانت مصرّة، تحاول إقناع صديقاتها بالأمر، اسمعن، حين تيأسن من الحياة، وترين أن عبورها مؤلم، استلقين على الأرض، على العشب، على أي مكان يمكنكم من خلاله رؤية السماء فقط.
لم يقتنع أحد بكلامها، فواصلت فعل ما تفعله وحدها، تستلقي على أرض الحديقة وتتأمل السماء، ترى أنها الشيء الوحيد الثابت في كل ما يتغير حولها، لا بأس، وكانت تقولها لوالدها وهي تضحك، "سترى الغيمات وهي تتمزّق وتعبر، مثل حيواتنا، والعصافير تمرّ مسرعة جداً، لكن السماء، آه، في مكانها دائماً، فما معنى أن تعبرك الحياة إن كانت السماء بيت عينك؟".
بعد أن بدأت الحرب، قرّرت أمها منعها من هذه الهواية المجنونة، لكنها دائماً كانت تختبئ عن عين أمها وتتأمل السماء، والعصافير، والصواريخ وهي تهوي، والطائرات وهي تغادر خفيفة منها. كلما أضاعتها أمها، وجدتها في البستان تحت شجرة تنظر للسماء بذهول.
لكن ما حدث لوالدتها في ذلك اليوم، جعلها تتوّقف عن فعل ذلك، ظنّت بأنها ستهجر السماء إلى الأبد، أغلقت الباب على نفسها، صرخت بوالدها: "لتمضِ هذه الحياة اللعينة، لن أخرج أبداً" وفي عزلتها الباكية تلك، لم يكن يسلّي روحها سوى تذكّر اللحظات التي كانت تمضيها ناظرة للسماء، وهكذا، قرّرت أن تخرج، فلا يمكن لشيء أن يمسح عن روحها العذاب سوى السماء التي سقط منها الصاروخ الذي قتل أمها.
اقــرأ أيضاً
3
ولدت بعيداً عن هذه الأرض، لكنها كانت تحلم كل ليلة بأنها تروي الحكايات، وكما قالت لأمها ذات صباح: "ليست أيّ حكايات، بل القصص الأخيرة لمن سيرحلون، والكلمات الأولى للناجين بعد إخراجهم من الأنقاض، حكايات تمسك باللحظات الأخيرة للإنسان".
وحين قامت الحرب في الأرض البعيدة، قرّرت تحقيق حلمها والذهاب هناك، قالت: "سأروي قصص الموتى والناجين، الأطفال والعجائز". ذهبت إلى هناك، عاشت تحت القصف، وأخرجوها ثلاث مرات من تحت الأنقاض. سكنت الملاجئ، والمستشفيات، وعادت إلى بلادها جريحة بفعل الحرب.
ومع جرحها، كانت ترافقها آلاف القصص. أطباؤها أخبروها بأنها لا تعاني من جرحها فقط، بل من قلبها، من رأسها وما حملته فيه من حكايات، ولحظات بكاء أخيرة، وبيوت مهدّمة، وأطفال بأنصاف أجساد. كان قلبها يعاني ورأسها. ولم يفلح أي طبيب بإعطائها علاجاً لما تعانيه، حتى همس لها طبيب مرة: "أحرقي كل القصص التي جمعتها وقمت بكتابتها، هكذا فقط ستستطعين النجاة من الجنون والمرض والموت". وهكذا فعلت، أحرقت القصص وجسدها أيضاً.
لم يكن الانتحار خياره في التخلّص من روحه القلقة والمتألمة، كان يدور في الشوارع حتى ساعات متأخرة من الليل، قلبه لا يهدأ عن إثارة قلقه، ورأسه المليء بذكرى الخيبات لا يتوّقف عن إعادة رواياتها مراراً عليه، حتى قامت الحرب، وجد أنها ستكون سكناً لروحه.
في البداية انضم إلى فرق الإسعاف، كان يحمل الجرحى ويعتني بهم طوال الطريق إلى المستشفى، يسمعهم يهذون بقصصهم، ويروون على مسامعه حكاياتهم الأخيرة، وصياتهم، والأسماء التي يريدون تذكّرها إلى الأبد. لكن هذا العمل لم ينقذه، فسماع الحكايات الأخيرة أقضّ سكينة مخادعة تأملها.
ترك عمله هذا والتحق بفرق الإنقاذ، تلك التي تقوم بإخراج جثث القتلى والمقصوفين من تحت الأنقاض، ظنّ بأنه لن يسمع شيئاً هذه المرّة، ستكون أجساداً انتهت حكاياتها للتو، لكنه رأى هذه المرة، ولم يسمع، رأى الأطفال وهم يُخرجون من تحت الأنقاض يحملون لعبهم الصغيرة، والأمهات وهنّ يبحثن عن أطفالهن في لحظات الحياة الأخيرة. ورأى الآباء الناجين، وهم يضربون رؤوسهم فيما تبقى من جدران، وهكذا فرّ من عمله هذا أيضاً.
قرّر بعد ذلك، الذهاب إلى الأحياء المهددة بالقصف، لجمع السكان وحكاية القصص لهم في الملاجئ المتخيّلة، في محاولة لتهدئة مخاوفهم. كان يروي ذات مرة حين قصفت البناية المجاورة فتهاوت الجدران على أجسادهم، لم ينج الكثيرون منهم، لكنه كان من الناجين، وهذا أضاف إليه بؤساً آخر، لكنه لم يترك عمله، صار ينتقل من حيّ لآخر يروي قصص الحياة للأطفال، وللفتيات المنتظرات آباءهن، وللشباب الذين كان على الحياة أن تكون لهم. وفي كل مرة كان يحدث قصف، كان ينجو، نجا كثيراً حتى شعر بالملل، وهكذا قرّر أخيراً الرحيل عن هذه البلاد وحربها، وكان يقول لكل من يلتقيه: حرب غبية! لقد جعلتني أنجو في كل مرة.
كانت تقول لأمها: انظري يا أمي، بهذه الطريقة أتخلّص من وهم عبور الحياة. أمها كانت تسخر منها وتتركها مستلقية على الأرض تحدق بالسماء، لكنها كانت مصرّة، تحاول إقناع صديقاتها بالأمر، اسمعن، حين تيأسن من الحياة، وترين أن عبورها مؤلم، استلقين على الأرض، على العشب، على أي مكان يمكنكم من خلاله رؤية السماء فقط.
لم يقتنع أحد بكلامها، فواصلت فعل ما تفعله وحدها، تستلقي على أرض الحديقة وتتأمل السماء، ترى أنها الشيء الوحيد الثابت في كل ما يتغير حولها، لا بأس، وكانت تقولها لوالدها وهي تضحك، "سترى الغيمات وهي تتمزّق وتعبر، مثل حيواتنا، والعصافير تمرّ مسرعة جداً، لكن السماء، آه، في مكانها دائماً، فما معنى أن تعبرك الحياة إن كانت السماء بيت عينك؟".
بعد أن بدأت الحرب، قرّرت أمها منعها من هذه الهواية المجنونة، لكنها دائماً كانت تختبئ عن عين أمها وتتأمل السماء، والعصافير، والصواريخ وهي تهوي، والطائرات وهي تغادر خفيفة منها. كلما أضاعتها أمها، وجدتها في البستان تحت شجرة تنظر للسماء بذهول.
لكن ما حدث لوالدتها في ذلك اليوم، جعلها تتوّقف عن فعل ذلك، ظنّت بأنها ستهجر السماء إلى الأبد، أغلقت الباب على نفسها، صرخت بوالدها: "لتمضِ هذه الحياة اللعينة، لن أخرج أبداً" وفي عزلتها الباكية تلك، لم يكن يسلّي روحها سوى تذكّر اللحظات التي كانت تمضيها ناظرة للسماء، وهكذا، قرّرت أن تخرج، فلا يمكن لشيء أن يمسح عن روحها العذاب سوى السماء التي سقط منها الصاروخ الذي قتل أمها.
ولدت بعيداً عن هذه الأرض، لكنها كانت تحلم كل ليلة بأنها تروي الحكايات، وكما قالت لأمها ذات صباح: "ليست أيّ حكايات، بل القصص الأخيرة لمن سيرحلون، والكلمات الأولى للناجين بعد إخراجهم من الأنقاض، حكايات تمسك باللحظات الأخيرة للإنسان".
وحين قامت الحرب في الأرض البعيدة، قرّرت تحقيق حلمها والذهاب هناك، قالت: "سأروي قصص الموتى والناجين، الأطفال والعجائز". ذهبت إلى هناك، عاشت تحت القصف، وأخرجوها ثلاث مرات من تحت الأنقاض. سكنت الملاجئ، والمستشفيات، وعادت إلى بلادها جريحة بفعل الحرب.
ومع جرحها، كانت ترافقها آلاف القصص. أطباؤها أخبروها بأنها لا تعاني من جرحها فقط، بل من قلبها، من رأسها وما حملته فيه من حكايات، ولحظات بكاء أخيرة، وبيوت مهدّمة، وأطفال بأنصاف أجساد. كان قلبها يعاني ورأسها. ولم يفلح أي طبيب بإعطائها علاجاً لما تعانيه، حتى همس لها طبيب مرة: "أحرقي كل القصص التي جمعتها وقمت بكتابتها، هكذا فقط ستستطعين النجاة من الجنون والمرض والموت". وهكذا فعلت، أحرقت القصص وجسدها أيضاً.