كانت إيتيل طريةً كزهرة نيلوفر، لم يأخذ منها العمر مأخذه، لكأنّها تستمدّ من السنين عنفوانها. تناقش بالحيوية نفسها وتنتقل في ربوع المعمورة من غير كللٍ أو مللٍ، حاملة معها أوراقها للكتابة والرسم.
في العام الماضي احتفى بها متحف الفن الحديث "متحف" في الدوحة، وأقام لها معرضًا تكريميًا تضمّن لوحاتها ودواوينها والمنشورات الفنية التي صدرت لها هنا وهناك بالعربية والإنجليزية. كان المعرض حدثًا ساهم في تسليط الضوء على بهاء مسيرها. وشاركت في كتالوغ المعرض الضخم بترجمة حواراتها مع هانز أولريش أوبريست، القيّم على المعرض.
ولدت إيتيل عدنان سنة 1925 في بيروت. ودرست في جامعة السوربون بباريس، ثمّ هارفارد في كامبريدج. درّست الفلسفة في كاليفورنيا حيث لا تزال تقيم إلى حدّ اليوم. لقد جعلت منها مؤلفات "القيامة العربية" و"ست ماري روز" أحد الأصوات البارزة المدافعة عن الإنسان والمرأة والسلام والإبداع، بحيث غدا اسمها متداولًا من بين الكتّاب المرشحين لجائزة نوبل.
عدنان، فنّانة متعدّدة المشارب، مبدعة لا ينضب لها معين، وإحدى النساء الأكثر حكمة.
رغبت إيتيل أوّلًا أن تكون مهندسةً معمارية، لكنّها صارت تشكيلية وشاعرة. والتقت بيوسف الخال في الستينيات ونشرت في مجلة "شعر". ولأنها تعشق شعر بدر شاكر السياب، والطريقة التي يتناول فيها الطبيعة والموت، فقد ترجمت له بعض القصائد ونشرتها في المجلة. تقول إيتيل عن لقائها بالخال: "كنت كلّ سنة أو سنتين، أذهب إلى بيروت. وفي يوم، وأنا أتمشّى في الشارع، أبصرت رواقًا للفنّ. كان رواق يوسف الخال، الذي فتح أوّل غاليري للفنّ الحديث في لبنان. لقد كان مبدعًا بشكل مزدوج. سمّاها "غاليري وان"، وإذ وجدت نفسي أمام الرواق، دخلت إليه، وكان الخال جالسًا. فدردشت معه بالإنجليزية وسألني: "ما عملك؟". فأجبت "أنا أستاذة وأمارس الكتابة"، فقال: "أرسلي بعض قصائدك لأنشرها". وأضاف: "عليك المجيء إلى لبنان للعمل معنا". وبما أنني لا أكتب بالعربية، فقد كان كثير من الشعراء العرب يقولون: "إيتيل ليست عربية، هي لا تكتب بالعربية". وظلّ ذلك يحزّ في نفسي دومًا. عدنان أكثر كتابّنا الفرنكفونيين عروبةً. فعدا حبّها للسيّاب، كتبت كثيرا عن لبنان والعرب، وتعدّ أن عظمة العروبة تكمن في الترحال، وأن الخيمة هي معمار العربي الأوّل ورحم إبداعه. كما ترى الشيخ إمام أحد عظماء القرن العشرين.
حبّها لفريدرش هولدرلين، جعل مقاربتها للشعر والوجود والتشكيل والسياسة، مقاربةً خاصّةً تبتعد كثيرًا عن المقاربات الممهورة بالإيديولوجيا لأبناء جيلها من الكتّاب والتشكيليين. لذا تعدّ الهوّية مفهومًا مشوبًا بغموضٍ بالغٍ، أي تعددًا يتجاوز الواقع إلى المتخيّل. فكلّ كاتب أو فنان مغترب، يحمل لغته الأمّ في متخيله: "كنّا نتعرض للعقاب عندما نتحدث اللغة العربية. وبما أنني لم أكن أتكلمها في البيت، وجدت نفسي على عتبة هذه اللغة. ومع أني أتحدثها في الشارع، فإني لا أستطيع كتابة قصيدة بها. هكذا حوّلتها إلى لغةٍ أسطورة، أو إن شئت، جعلتُ منها فردوسًا مفقودًا".
ومع أن إيتيل عدنان معروفة اليوم كاتبة وشاعرة تكتب بالفرنسية والإنجليزية، إلا أنها غير معروفة في الثقافة العربية، كفنّانة تشكيلية أيضًا. هي فنانة قبل أن تنظم الشعر، ومثقفة متعددة، ما أن تمسّ فنّا حتّى تتقنه؛ من الشعر إلى السينما والرسم والتشكيل والرواية. كان التشكيل ينبع من بواطنها وينتظر الفرصة للانبثاق: "حين بدأت الرسم، كنت ما أزال أتعلّم الإنجليزية في أميركا. لم أكن قد بدأت بعد في كتابة الشعر أو النثر، لم يكن لدي بعد سبيلٌ آخر للتعبير. اكتشفت بعد ذاك أن التشكيل قد يعبّر عن فرحة العيش، بينما تتعلّق الكتابة الأدبية أكثر بالتأمّل في أكثر العناصر مأساويةً في الحياة. الأشياء التي أعدّها جامدةً، تملك دومًا شيئًا يمكنها الإفصاح عنه. كلّ شيء يتكلم. وبالنسبة لي، التشكيل لغةٌ تتجاوز الكلمات".
ظلّ حلمها بدراسة العمارة يسكنها. ورغم أنها لم تبنِ جسورًا ولا بيوتًا، فقد استطاعت بلوغ مأربها، سواء في أشعارها أو رواياتها أو في لوحاتها أو في أفلام الفيديو التي نفذتها.
تهمها الطريقة التي ينبني بها الإنسان والعالم انطلاقًا من عناصر الطبيعة. وأعمالها التشكيلية ونصوصها عبارة عن معمار كوني تغدو فيه الطبيعة روح المعمار والوجود. ولأنها فنّانة عصامية، فإن تعاملها الخام مع الألوان يفصح عن فلسفة للحياة. فحين تخرج الألوان من أنبوب الصباغة لا ترغب في خلطها، ما دامت فرحة الألوان الخالصة ذات جمال أخّاذ. لكنها تعرف أيضا أن اللون يملك معنى خفيًا.
تنطلق اللوحة دائمًا من مربعٍ أحمر، ثمّ تتوالى الأشكال والتشكيلات. وكتابها "رحلة إلى جبل طامالباييس" الذي ألّفته في كاليفورنيا، يبرز ذلك بروعة. فهذا الجبل الذي تبصره من نافذتها في سان فرانسيسكو يوميًا، تصفه بشكلٍ جديدٍ كلّ يوم وترسمه مرارًا، مثلما رسم بول سيزان جبل "سانت فكتوار" في مدينة إيكس أون بروفانس.
الأثر الروحي للطبيعة في صلب اهتمامات إيتيل. ففي ديوانيها "البحر والضباب" و"مواسم"، تحضر الظواهر الطبيعية والمناخية بصورةٍ قوّية، وتحضر معها كلّ تلك العناصر التي تصعب على الإدراك العقلي، وتؤثّر فينا، وتحوّل لا شعوريًا بشرتنا وروحنا. ذلك بالضبط، ما يجعل مسيرتها الفنية والكتابية، مختبرًا شاسعًا وعميقًا للتجارب العربية في هذا المضمار من جهة، وتجربة تنطلق من اليومي والآني والذاكرة والانتماء، من جهة أخرى لتبني اللوحة بناءً وتركّب القصيدة تركيبًا، وتجعل منا نحن قراؤها ومشاهدو أعمالها، صغارًا جدًا نسعى لارتقاء شعاب المعنى الموصلة إلى مكامنها.