خرج، مؤخّراً، إلى الصالات الفرنسية فيلم "إنهم في كل مكان" من إخراج وتمثيل الفرنسي ـ الإسرائيلي إيفان عتّال (1965). يبتغي الفيلم، وفقاً لصاحبه، تعرية الكليشيهات المعادية للسامية في المجتمع الفرنسي. كما هو معلوم، في السياق الغربي، تستخدم عبارة "معاداة السامية" المشتقّة من الخرافات العرقية الآفلة كمرادف لرهاب اليهود، وهو استخدام إشكالي؛ كون اليهود الأوروبيين، وبشهادة المؤرّخين الغربيين أنفسهم، ليس لهم أسلاف ناطقون بلغات سامية.
ينقسم الفيلم إلى فصول مستقلّة لكلٍ منها عنوانه وحبكته الخاصة. وفي الوقت المستقطع بين كل فصل والذي يليه/ يظهر عتّال على كنبة المعالج النفسي ليتكلم عن عقدة اضطهاده (البارانويا) التي تجعله يظنّ الجميع معادين للسامية ويُضمرون له الشر لأنه يهودي. لكنه ينتقل بسرعة من دور المريض إلى دور المعالج والواعظ: الجميع مرضى بمعاداة السامية، لكنهم يعيشون حالة نكران ويكابرون. معاداة السامية متجذّرة عميقاً في النفوس على غرار الخطيئة الأصلية في المسيحية، وطريق الخلاص الضيّق والأوحد عليه أن يمرّ بعملية مضنية ومستمرة من التطهّر ومحاكمة الذات وجَلدها.
يشرح عتّال في مقابلة مع "إذاعة أوروبا إسرائيل نيوز" أن معاداة الصهيونية هي القناع الذي يحتجب خلفه اليوم شيطان معاداة السامية، ومعاداة الصهيونية في نظره ونظر من لفّ لفّه هي مرادف لكل موقف يدين سياسة "إسرائيل" الاستيطانية والعنصرية حيال الفلسطينيين.
لم يكن مستغرباً أن يحمل فيلم "إنهم في كل مكان" نزعة بروباغندية من جانب مخرج يصف جرائم جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة بـ "القدوة"، ويُشيد بـ "فارس" الإسلاموفوبيا الفرنسية آلان فنكلكروت، العنصري والمتعصّب بدوره لـ"إسرائيل". المفاجئ هو أنه تجنّب مهاجمة المسلمين الفرنسيين وركّز سهامه على معاداة السامية التقليدية لدى الفرنسيين الصفوة.
البروبغاندا الإسرائيلية لا تحضر بصورة مباشرة وفجّة إلا في الفصل الأخير الذي يحمل عنوان: "وإسرائيل؟". في هذا الفصل، عملاً بالكليشيه الذي يقول إن اليهود جميعهم أغنياء، يقرّر رئيس الجمهورية الفرنسية تهويد فرنسا للخروج من الأزمة الاقتصادية. في تل أبيب، يقول عجوز لآخر عند سماعه الخبر: "الفرنسيون مجانين، هم لا يعرفون عاقبة فعلتهم". تُجري الحكومة الفرنسية استفتاءَ شعبياً حول مشروع القانون الجديد، وعند فوز الأصوات المؤيّدة يعتنق الفرنسيون اليهودية جماعياً. بعدها نرى صفّارات الإنذار تدوي في العاصمة الباريسية والشوارع خالية، قبل أن يسقط صاروخ على برج إيفل.
ونسمع العجوز الإسرائيلي يقول: "يكفي أن توجد كمية من اليهود في مكان ما حتى يهاجمهم معادو السامية من كل حدب وصوب". الإشارة هنا واضحة إلى صواريخ حركة حماس، والرسالة المبتغاة مفادها أن كل مشاكل "إسرائيل" مع الفلسطينيين وجيرانها سببها معاداة السامية!
وفي فصل "التبرّم من المحرقة"، يصنّف عتّال أسئلة مشروعة لمثقّفين يهود وأوروبيين في خانة معاداة السامية، وأهمّها تلك التي يطرحها المؤرّخ الإسرائيلي شلومو ساند حول احتكار اليهود للمحرقة وتغييب من شاركوهم إياها من المعارضين السياسيين والغجر، مع أن الأخيرين يمثّلون مجموعة إثنية لاقت نفس المصير والمعاملة التي لاقاها اليهود الأوروبيون على يد النازيين، وتتساوى نسبة الضحايا لدى الفئتين.
ومن نلك الأسئلة أيضاً، تلك التي يطرحها علماء اجتماع أوروبيون حول جدوى تربية الأجيال الأوروبية على الإحساس بالذنب اتجاه المحرقة، وأثر ذلك على الأطفال اليهود أنفسهم. لا شك أن الفصل الثاني من الفيلم هو أكثر ما يسلط الضوء على عقدة اضطهاد عتّال وسيكولوجيا الوسط الاجتماعي الذي ينحدر منه، وهو وسط اليهود السفرديم من ذوي الأصول المغاربية الذين يمثّلون الأكثرية الساحقة من اليهود الفرنسيين، لكنهم يبقون أقلّية في نادي النخبة اليهودية الاقتصادية والثقافية الذي يهيمن عليه الأشكناز (اليهود ذوو الأصول الأوروبية).
نرى يهودياً جزائري الأصل من سكّان الضواحي الفرنسية لا تفتأ زوجته السابقة تسخر منه لأنه فقير وفاشل رغم أنه يهودي. يدفعه ذلك إلى الاستعلام عن اليهود على مواقع اليمين المتطرّف الإلكترونية، وحينها ينبهر بالسطوة والقوّة الخرافية التي تنسبها نظرية المؤامرة إلى اليهود ويشعر بغيظ شديد لأنه لم ينل حصّته من "المؤامرة".
كما يحصل غالباً في جلسات التحليل النفسي، يكشف المخرج المريض هنا من دون قصد عمّا يحرّك عقدة اضطهاده: عقدة اليهودي عربي الجذور المتململ في جلده والمهووس من باب الافتتان بكليشيهات معاداة السامية وقوّة "إسرائيل" وملحمة المحرقة الأشكنازية وتاريخ اليهود الأوروبيين الذين قدّموا للغرب بعض أبرز أعلامه ومفكّريه.
قالت لي مرّة صديقة ذات جذور مغربية يهودية إن جزءاً كبيراً ممن يضعون القلنسوة ونجمة داوود في فرنسا لا يفعلون ذلك بداعي التديّن، بل كي لا يظنهم الفرنسيون مسلمين بسبب ملامحهم المغاربية (الأمر نفسه ينطبق على صلبان جزء كبير من "مسيحيي الشرق" في فرنسا).
هذه الرغبة بالتمايز والتملّص قديمة وسابقة على الصراع العربي الإسرائيلي؛ إذ تعود إلى الحقبة الاستعمارية حين منحت فرنسا الجزائريين اليهود الجنسية الفرنسية، على عكس الجزائريين المسلمين، كما أقامت علاقات خاصة وتفضيلية مع يهود تونس والمغرب زمن استعمارهما. هذه الحاجة الملحّة للخروج من الجلد والتملّص من الجذور المغاربية والعربية تلعب دوراً كبيراً في تماهي نسبة كبيرة من اليهود الفرنسيين مع المحرقة التي لم تكن محرقتهم و"إسرائيل" التي يتعرّض فيها أقاربهم السفرديم إلى العنصرية والتمييز.
في تل أبيب يسمّيهم الأشكناز "المغاربة" (وليس "السفرديم")، في حين أنك في فرنسا تجد العديد منهم يشتم المغاربة ويعرّف عن نفسه بأنه من أصل إسرائيلي ويأكل من خبز الأشكناز والمحرقة، مع أنه لم يطأ أرض "اسرائيل" (فلسطين المحتلة) في حياته، لا هو ولا جدّ جدّه. المفارقة هنا هي أن الهوية اليهودية المتصهينة، تلك التي كانت بالنسبة للأشكناز بديلاً عن الهوية الأوروبية، صارت بالنسبة للسفرديم بابهم إلى الانتماء الأوروبي والغربي.