24 أكتوبر 2024
اتفاق إدلب.. فرص نجاحه وتحديات تنفيذه
توصّل الرئيسان، التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين، في لقاء قمة جمعهما يوم 17 أيلول/ سبتمبر 2018 في مدينة سوتشي الروسية، إلى اتفاقٍ للحفاظ على منطقة خفض التصعيد في إدلب، ومنع هجوم عسكري عليها، يشمل إنشاء منطقةٍ منزوعة السلاح. وقد جاء الاتفاق، بعد فشل قمة ثلاثية في طهران، عقدت في السابع من الشهر نفسه، في التوصل إلى اتفاق حول مستقبل المحافظة التي غدت المعقل الأخير لقوات المعارضة السورية، بعد تصفية مناطق خفض التصعيد الثلاث الأخرى في غوطة دمشق، وريف حمص الشمالي، ومنطقة جنوب غرب سورية.
بنود الاتفاق
بحسب ما أعلنه الرئيسان، في المؤتمر الصحافي، يشمل الاتفاق إنشاء منطقة منزوعة السلاح بين مقاتلي المعارضة وقوات النظام السوري، بحلول 15 تشرين الأول/ أكتوبر 2018، بعرض يراوح بين 15 و20 كم، وسحب الأسلحة الثقيلة من المنطقة منزوعة السلاح، بحلول 10 تشرين الأول/ أكتوبر.. كما نص الاتفاق على التزام الجانب الروسي ضمان عدم شن عمليات عسكرية ضد إدلب، في مقابل إبعاد الجماعات المتطرّفة عن المنطقة منزوعة السلاح، و"العمل على ضمان حرية حركة السكان المحليين والبضائع، واستعادة الصلات التجارية والاقتصادية، واستعادة حركة الترانزيت عبر الطريقين إم 4 (حلب - اللاذقية) وإم 5 (حلب - حماة) بحلول نهاية عام 2018". كما أكد الطرفان "عزمهما محاربة الإرهاب داخل سورية بجميع أشكاله وصوره"، واتخاذ "إجراءاتٍ فاعلةٍ لضمان نظام مستدام لوقف النار داخل منطقة خفض التصعيد في إدلب". وتقوم تركيا وروسيا بتسيير دوريات عسكرية منسقة لمراقبة التزام الاتفاق باستخدام طائرات من دون طيار، على امتداد حدود المنطقة منزوعة السلاح.
دوافع تغير الموقف الروسي.
مثّل الاتفاق مفاجأة، في ضوء ما ظهر في قمة طهران التي شهدت سجالًا علنيًّا بين الرئيسين الروسي والتركي؛ إذ أصرّت تركيا في القمة على ضرورة احترام الاتفاق الخاص بخفض التصعيد في إدلب الذي تم التوصل إليه في إطار مسار أستانة في مطلع أيار/ مايو 2017، وتم الاتفاق على تفاصيل تنفيذه في أيلول/ سبتمبر 2017؛ بما يضمن تجنيب المحافظة عملًا عسكريًا يمكن أن يؤدي إلى مأساةٍ إنسانيةٍ كبرى، في ظل تقديراتٍ بوجود أكثر من ثلاثة ملايين مدني فيها، أكثرهم نازحون من مناطق سورية أخرى. أما روسيا فقد رفضت أي دعوةٍ إلى وقف إطلاق النار، أو إعطاء مزيدٍ من الوقت للتوصل إلى تسوية سياسية، في إطار سعيها المشترك مع طهران إلى إعادة المنطقة إلى سيطرة النظام السوري، قبل البحث في أي حل سياسي للصراع في سورية.
وقد ساهمت مجموعة من العوامل في تغيير الموقف الروسي الرافض تسوية سياسية؛ أهمها أن عملية عسكرية كبيرة في إدلب كانت ستؤدي بالضرورة إلى انهيار مسار أستانة، الذي يتعرّض لضغوطٍ شديدةٍ في مواجهة مجموعة العمل المصغرة حول سورية التي باتت تضم إلى أعضائها الخمسة الأصليين (الولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا، وبريطانيا، والسعودية، والأردن) ألمانيا ومصر. وقد عادت هذه المجموعة للنشاط أخيرا؛ بإصدارها مجموعة المبادئ حول حل الصراع في سورية في مواجهة المقاربة الروسية. وسمح اتفاق إدلب لموسكو بإنقاذ مسار أستانة الذي هدّدت تركيا بالانسحاب منه، إذا قامت روسيا بعمل عسكري كبير ضد إدلب، ومن شأن ذلك أن يقوّض فرص الحل السياسي وفق الرؤية الروسية في سورية.
في إطار إستراتيجي أوسع، بدا واضحًا أن عمليةً عسكريةً كبيرةً في إدلب ستؤدي بالضرورة إلى تبديد كل جهود موسكو لانتزاع تركيا من حضن الغرب، والمستمرّة منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة في تموز/ يوليو 2016، بما في ذلك مساعي ربط تركيا بروسيا باتفاقياتٍ حول التجارة والطاقة، وحتى تزويدها بمنظومة صواريخ إس - 400 التي أثارت قلقًا واسعًا في الغرب، وبين حلفاء منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو).
نجحت تركيا من جهتها في إيضاح أهمية إدلب بالنسبة إليها؛ من خلال المقاومة الصلبة التي أبدتها لمنع هجوم عليها؛ إذ لم تكتف بإعلان معارضتها هذا الهجوم، كما فعلت إزاء تصفية بقية مناطق خفض التصعيد، بل وفّرت كل وسائل الدعم للمعارضة السورية المسلحة، استعدادًا لمواجهة كبرى محتملة. وفضلًا عن ذلك، حشدت عشرات الآلاف من قواتها داخل منطقة خفض التصعيد، وعلى الحدود معها، جاعلة من إدلب خطًا أحمر لها.
كما أن التحذيرات الدولية المتعاظمة من وقوع حمام دم في إدلب ربما تكون ساهمت أيضًا في الدفع في اتجاه تسوية؛ ذلك أن سقوط عدد كبير من المدنيين كان سيضع ضغطًا كبيرًا على الرئيس بوتين الذي لا يهتم عادة بهذا الشأن، لولا أن إستراتيجيته خلال الأسابيع الأخيرة أخذت تتمحور حول قضايا إعادة اللاجئين والإعمار، في محاولةٍ منه للحصول على دعم دولي في هذا الصدد، وأيضًا باعتبارها وسيلةً لإعادة تأهيل نظام الأسد واستعادة شرعيته.
وقدّمت تركيا عرضًا للتسوية، يحقق لروسيا جزءًا مهمًا من الأهداف التي كانت تسعى إلى تحقيقها من وراء عملية عسكرية، إنما من دون قتال، فإنشاء منطقة منزوعة السلاح بعمق يراوح بين 15 و20 كم، وإبعاد فصائل المعارضة إلى الشمال، يوفّران الحماية لقاعدة حميميم الجوية الروسية التي باتت تتعرّض، في الآونة الأخيرة، لهجمات متكرّرة بطائرات درونز تنطلق من مناطق تسيطر عليها المعارضة في إدلب. كما تعهّدت تركيا بتفكيك التنظيمات المتطرّفة في إدلب؛ وهو هدف آخر مهم بالنسبة إلى موسكو. وحصل النظام السوري على بعض المكاسب من الاتفاق؛ إذ فتح الطريق الدولي بين اللاذقية وحلب وبين حماة وحلب، وهو شريان التجارة الرئيس في البلاد. أما أردوغان فقد حصل على إقرار روسي بنفوذ تركيا في إدلب، وحفظ لها مصالحها فيها، سواء ما تعلق منها بمنع تهجير مئات آلاف اللاجئين، أو بالمحافظة على فصائل المعارضة، باعتبارها قوة مهمة للضغط في اتجاه الحل السياسي.
يعدّ العامل الأخير والمهم الذي ساهم في التوصل إلى اتفاق هو غياب الطرف الإيراني. وقد أثبتت التجارب السابقة أن روسيا وتركيا تتفاهمان أفضل عندما لا تكون طهران طرفًا فيه، حصل هذا في اتفاق حلب في كانون الأول/ ديسمبر 2016 (كان اتفاقًا كارثيًا للمعارضة السورية على كل حال)، وفي اتفاق خفض التصعيد في إدلب في أيلول/ سبتمبر 2017، وفي مناسباتٍ أخرى.
تحدّيات
إذا كانت روسيا تمكّنت من تسويق الاتفاق لدى حلفائها (إيران والنظام السوري)، فإن أبرز التحديات التي تواجه تنفيذه هي المتعلقة بالجانب التركي، ومدى قدرته على تسويق الاتفاق، ودفع بعض الجماعات المتشدّدة الموجودة في إدلب إلى تنفيذه. وتضم إدلب تنظيماتٍ يمكن أن تشكل عقبة أمام تنفيذ الاتفاق؛ وأهمها هيئة تحرير الشام، وحرّاس الدين، ومسلحو الحزب الإسلامي التركستاني (الإيغور) وآخرون.
تُعدّ هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا) أكبر التنظيمات التي يمكن أن تقف حجر عثرة في طريق الاتفاق، ويقدر عدد مقاتليها بـ 12- 15 ألف مقاتل، وتسيطر الهيئة على ما يقرب من نصف مساحة المحافظة بما فيها مركزها. وقد عملت تركيا منذ التوصل إلى اتفاقٍ تفصيليٍّ حول إنشاء منطقة خفض التصعيد في إدلب مع روسيا، في أيلول/ سبتمبر 2017 على
محاولة تفكيك هيئة تحرير الشام وعزل الجناح المتشدد فيها (الأجانب أو المهاجرون) عن المعتدلين. ويشكل السوريون نحو 90% من عناصر الهيئة. وما زال غير واضح مدى النجاح الذي حققته الجهود التركية في الفصل بين عناصر الهيئة المتشدّدين والمعتدلين، على الرغم من أن أنباء تحدثت عن انضمام بعض العناصر إلى فصائل المعارضة المعتدلة التي تدعمها تركيا.
لم تصدر الهيئة، حتى الآن، أي بيان رسمي يوضح موقفها من اتفاق إدلب. ومع ذلك، رفض قادة "مهاجرون" في الهيئة الاتفاق الروسي – التركي، وتعهدوا بمواصلة القتال في إدلب. وتمتلك هيئة تحرير الشام ترسانة أسلحة ثقيلة من دبابات ومدافع، وينتشر مقاتلوها على أجزاء من طريق دمشق - حلب الدولي، ومواقع عدة بالقرب من معبر باب الهوى، وتُعدّ جبال حارم الحدودية من أهم معاقلهم.
أما حرّاس الدين، فهو تنظيم منشق أصلًا عن هيئة تحرير الشام، تم تأسيسه في شباط/ فبراير 2018، يعلن ولاءه لزعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري، ونواته الجهادية أجنبية؛ إذ ينضوي في صفوفه جهاديون عديدون قاتلوا في أفغانستان والعراق، كما استقطب عناصر من "داعش" من إدلب ودير الزور. وقد رفض التنظيم الذي يقدر عدد مقاتليه بنحو 1200 مقاتل، بوضوح الاتفاق الروسي – التركي، وأصدر بيانًا دعا فيه إلى "النفير" في مواجهة ما أسماه اتفاق "دايتون". ويتوقع أن يشكل التنظيم عائقًا أمام تطبيق الاتفاق، خصوصا أن مقاتليه ينتشرون في مناطق في ريفي إدلب الغربي واللاذقية الشمالي..
أما التنظيم الثالث الذي يمكنه أن يعارض الاتفاق، فهو الجيش الإسلامي التركستاني، الذي ينحدر أغلب مقاتليه من منطقة تركستان الشرقية (أو إقليم شينجيانغ) ذات الأغلبية المسلمة غرب الصين، ويرتبط التنظيم الذي أُسس في سورية في حزيران/ يونيو 2014، تحت اسم "الحزب الإسلامي التركستاني في بلاد الشام"، بتنظيم القاعدة، ويقدّر عدد مقاتليه بنحو 2300. وينتشر مقاتلو الجيش في جسر الشغور ومناطق أخرى على حدود محافظة إدلب مع اللاذقية. يُعدّ التنظيم قريبًا من هيئة تحرير الشام؛ وهو مثلها، لم يصدر حتى الآن موقفًا من الاتفاق، ويُتوقّع أن ينسحب موقف الهيئة على موقف الحزب بسبب قربه منها وتحالفه معها.
وهناك عدد آخر من الفصائل المتشددة الرافضة للاتفاق، مثل أنصار الدين، وأنصار الفرقان، وأنصار التوحيد، وغيرها، إلا أنه لا يعتدّ بها لصغر حجمها، ليبقى موقف هيئة تحرير الشام الأهم، وتترتب عليه تداعيات كبيرة؛ نظرًا إلى حجمها ونفوذها الكبيريْن في إدلب. ويبدو أن الجانب التركي أخذ على عاتقه التعامل مع كل فصيلٍ من شأنه عرقلة تنفيذ اتفاق إدلب، مقابل ألّا تشنّ روسيا وحلفاؤها هجومًا واسع النطاق على محافظة إدلب، بحجة القضاء على التنظيمات المتطرّفة. ويعني هذا أن احتمال وقوع صدام عسكري بين الفصائل الرافضة اتفاق إدلب وكل من تركيا والفصائل السورية التابعة لها سوف يتزايد في الفترة المقبلة، إذا أصرّت هذه الفصائل على عدم تنفيذ الاتفاق. وفي إشارة إلى عزمها تنفيذ الاتفاق، أرسلت تركيا تعزيزات عسكرية كبيرة إلى منطقة خفض التصعيد في إدلب، تشمل دبابات وعربات مدرعة لنقل الجنود.
خاتمة
مثّل اتفاق إدلب الذي تم التوصل إليه بين الرئيسين التركي والروسي محطةً أخرى في مسيرة تعاون بينهما، بدأت في سورية، بعد فشل المحاولة الانقلابية في تركيا في منتصف تموز/ يوليو 2016. وعلى الرغم من أن روسيا استخدمت تقاربها مع تركيا غطاءً لحسم الصراع على
الأرض عسكريًا لصالح النظام، فقد بدت أكثر اهتمامًا بالحساسية التركية في المناطق الحدودية القريبة منها؛ إذ سمحت لتركيا في آب/ أغسطس 2016 بإطلاق عملية درع الفرات في المثلث الممتد بين جرابلس والباب وأعزاز؛ لطرد تنظيم داعش منها، وإقامة منطقة آمنة فيها. كما سمحت موسكو لأنقرة بإطلاق عملية "غصن الزيتون" في عفرين، وطرد وحدات حماية الشعب الكردية في مطلع عام 2018. ويمثل اتفاق إدلب مرحلةً ثالثةً في هذا التعاون، لكن تحدّياتٍ تواجهه، في ضوء المقاومة التي يتوقع أن يبديها بعض الفصائل المتشدّدة للجهود التركية الرامية إلى إنشاء منطقة منزوعة السلاح في إدلب، ومحاولة تفكيك وجودها فيها، أو لجهة ظهور محاولات إيرانية لتقويض الاتفاق.
في كل الأحوال، لا يمثل الاتفاق تحولًا في مسار الأوضاع في سورية، ولا يشكّل منعطفًا، بل مخرجًا جنّب محافظة إدلب، التي تضم نحو ثلاثة ملايين مدني، معركةً دامية، ريثما تتضح صورة التفاهمات الإقليمية والدولية حول قضايا الحل السياسي في سورية، وكيفية الوصول إليه. فالعملية الرئيسة الجارية حاليًا هي محاولات إعادة ترميم نظام الاستبداد في سورية، ويكمن امتحان القوى السورية والدولية المعارضة لهذا النظام في إفشال هذه العملية، وعدم منحها أي شرعية.
بنود الاتفاق
بحسب ما أعلنه الرئيسان، في المؤتمر الصحافي، يشمل الاتفاق إنشاء منطقة منزوعة السلاح بين مقاتلي المعارضة وقوات النظام السوري، بحلول 15 تشرين الأول/ أكتوبر 2018، بعرض يراوح بين 15 و20 كم، وسحب الأسلحة الثقيلة من المنطقة منزوعة السلاح، بحلول 10 تشرين الأول/ أكتوبر.. كما نص الاتفاق على التزام الجانب الروسي ضمان عدم شن عمليات عسكرية ضد إدلب، في مقابل إبعاد الجماعات المتطرّفة عن المنطقة منزوعة السلاح، و"العمل على ضمان حرية حركة السكان المحليين والبضائع، واستعادة الصلات التجارية والاقتصادية، واستعادة حركة الترانزيت عبر الطريقين إم 4 (حلب - اللاذقية) وإم 5 (حلب - حماة) بحلول نهاية عام 2018". كما أكد الطرفان "عزمهما محاربة الإرهاب داخل سورية بجميع أشكاله وصوره"، واتخاذ "إجراءاتٍ فاعلةٍ لضمان نظام مستدام لوقف النار داخل منطقة خفض التصعيد في إدلب". وتقوم تركيا وروسيا بتسيير دوريات عسكرية منسقة لمراقبة التزام الاتفاق باستخدام طائرات من دون طيار، على امتداد حدود المنطقة منزوعة السلاح.
دوافع تغير الموقف الروسي.
مثّل الاتفاق مفاجأة، في ضوء ما ظهر في قمة طهران التي شهدت سجالًا علنيًّا بين الرئيسين الروسي والتركي؛ إذ أصرّت تركيا في القمة على ضرورة احترام الاتفاق الخاص بخفض التصعيد في إدلب الذي تم التوصل إليه في إطار مسار أستانة في مطلع أيار/ مايو 2017، وتم الاتفاق على تفاصيل تنفيذه في أيلول/ سبتمبر 2017؛ بما يضمن تجنيب المحافظة عملًا عسكريًا يمكن أن يؤدي إلى مأساةٍ إنسانيةٍ كبرى، في ظل تقديراتٍ بوجود أكثر من ثلاثة ملايين مدني فيها، أكثرهم نازحون من مناطق سورية أخرى. أما روسيا فقد رفضت أي دعوةٍ إلى وقف إطلاق النار، أو إعطاء مزيدٍ من الوقت للتوصل إلى تسوية سياسية، في إطار سعيها المشترك مع طهران إلى إعادة المنطقة إلى سيطرة النظام السوري، قبل البحث في أي حل سياسي للصراع في سورية.
وقد ساهمت مجموعة من العوامل في تغيير الموقف الروسي الرافض تسوية سياسية؛ أهمها أن عملية عسكرية كبيرة في إدلب كانت ستؤدي بالضرورة إلى انهيار مسار أستانة، الذي يتعرّض لضغوطٍ شديدةٍ في مواجهة مجموعة العمل المصغرة حول سورية التي باتت تضم إلى أعضائها الخمسة الأصليين (الولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا، وبريطانيا، والسعودية، والأردن) ألمانيا ومصر. وقد عادت هذه المجموعة للنشاط أخيرا؛ بإصدارها مجموعة المبادئ حول حل الصراع في سورية في مواجهة المقاربة الروسية. وسمح اتفاق إدلب لموسكو بإنقاذ مسار أستانة الذي هدّدت تركيا بالانسحاب منه، إذا قامت روسيا بعمل عسكري كبير ضد إدلب، ومن شأن ذلك أن يقوّض فرص الحل السياسي وفق الرؤية الروسية في سورية.
في إطار إستراتيجي أوسع، بدا واضحًا أن عمليةً عسكريةً كبيرةً في إدلب ستؤدي بالضرورة إلى تبديد كل جهود موسكو لانتزاع تركيا من حضن الغرب، والمستمرّة منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة في تموز/ يوليو 2016، بما في ذلك مساعي ربط تركيا بروسيا باتفاقياتٍ حول التجارة والطاقة، وحتى تزويدها بمنظومة صواريخ إس - 400 التي أثارت قلقًا واسعًا في الغرب، وبين حلفاء منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو).
نجحت تركيا من جهتها في إيضاح أهمية إدلب بالنسبة إليها؛ من خلال المقاومة الصلبة التي أبدتها لمنع هجوم عليها؛ إذ لم تكتف بإعلان معارضتها هذا الهجوم، كما فعلت إزاء تصفية بقية مناطق خفض التصعيد، بل وفّرت كل وسائل الدعم للمعارضة السورية المسلحة، استعدادًا لمواجهة كبرى محتملة. وفضلًا عن ذلك، حشدت عشرات الآلاف من قواتها داخل منطقة خفض التصعيد، وعلى الحدود معها، جاعلة من إدلب خطًا أحمر لها.
كما أن التحذيرات الدولية المتعاظمة من وقوع حمام دم في إدلب ربما تكون ساهمت أيضًا في الدفع في اتجاه تسوية؛ ذلك أن سقوط عدد كبير من المدنيين كان سيضع ضغطًا كبيرًا على الرئيس بوتين الذي لا يهتم عادة بهذا الشأن، لولا أن إستراتيجيته خلال الأسابيع الأخيرة أخذت تتمحور حول قضايا إعادة اللاجئين والإعمار، في محاولةٍ منه للحصول على دعم دولي في هذا الصدد، وأيضًا باعتبارها وسيلةً لإعادة تأهيل نظام الأسد واستعادة شرعيته.
وقدّمت تركيا عرضًا للتسوية، يحقق لروسيا جزءًا مهمًا من الأهداف التي كانت تسعى إلى تحقيقها من وراء عملية عسكرية، إنما من دون قتال، فإنشاء منطقة منزوعة السلاح بعمق يراوح بين 15 و20 كم، وإبعاد فصائل المعارضة إلى الشمال، يوفّران الحماية لقاعدة حميميم الجوية الروسية التي باتت تتعرّض، في الآونة الأخيرة، لهجمات متكرّرة بطائرات درونز تنطلق من مناطق تسيطر عليها المعارضة في إدلب. كما تعهّدت تركيا بتفكيك التنظيمات المتطرّفة في إدلب؛ وهو هدف آخر مهم بالنسبة إلى موسكو. وحصل النظام السوري على بعض المكاسب من الاتفاق؛ إذ فتح الطريق الدولي بين اللاذقية وحلب وبين حماة وحلب، وهو شريان التجارة الرئيس في البلاد. أما أردوغان فقد حصل على إقرار روسي بنفوذ تركيا في إدلب، وحفظ لها مصالحها فيها، سواء ما تعلق منها بمنع تهجير مئات آلاف اللاجئين، أو بالمحافظة على فصائل المعارضة، باعتبارها قوة مهمة للضغط في اتجاه الحل السياسي.
يعدّ العامل الأخير والمهم الذي ساهم في التوصل إلى اتفاق هو غياب الطرف الإيراني. وقد أثبتت التجارب السابقة أن روسيا وتركيا تتفاهمان أفضل عندما لا تكون طهران طرفًا فيه، حصل هذا في اتفاق حلب في كانون الأول/ ديسمبر 2016 (كان اتفاقًا كارثيًا للمعارضة السورية على كل حال)، وفي اتفاق خفض التصعيد في إدلب في أيلول/ سبتمبر 2017، وفي مناسباتٍ أخرى.
تحدّيات
إذا كانت روسيا تمكّنت من تسويق الاتفاق لدى حلفائها (إيران والنظام السوري)، فإن أبرز التحديات التي تواجه تنفيذه هي المتعلقة بالجانب التركي، ومدى قدرته على تسويق الاتفاق، ودفع بعض الجماعات المتشدّدة الموجودة في إدلب إلى تنفيذه. وتضم إدلب تنظيماتٍ يمكن أن تشكل عقبة أمام تنفيذ الاتفاق؛ وأهمها هيئة تحرير الشام، وحرّاس الدين، ومسلحو الحزب الإسلامي التركستاني (الإيغور) وآخرون.
تُعدّ هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا) أكبر التنظيمات التي يمكن أن تقف حجر عثرة في طريق الاتفاق، ويقدر عدد مقاتليها بـ 12- 15 ألف مقاتل، وتسيطر الهيئة على ما يقرب من نصف مساحة المحافظة بما فيها مركزها. وقد عملت تركيا منذ التوصل إلى اتفاقٍ تفصيليٍّ حول إنشاء منطقة خفض التصعيد في إدلب مع روسيا، في أيلول/ سبتمبر 2017 على
لم تصدر الهيئة، حتى الآن، أي بيان رسمي يوضح موقفها من اتفاق إدلب. ومع ذلك، رفض قادة "مهاجرون" في الهيئة الاتفاق الروسي – التركي، وتعهدوا بمواصلة القتال في إدلب. وتمتلك هيئة تحرير الشام ترسانة أسلحة ثقيلة من دبابات ومدافع، وينتشر مقاتلوها على أجزاء من طريق دمشق - حلب الدولي، ومواقع عدة بالقرب من معبر باب الهوى، وتُعدّ جبال حارم الحدودية من أهم معاقلهم.
أما حرّاس الدين، فهو تنظيم منشق أصلًا عن هيئة تحرير الشام، تم تأسيسه في شباط/ فبراير 2018، يعلن ولاءه لزعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري، ونواته الجهادية أجنبية؛ إذ ينضوي في صفوفه جهاديون عديدون قاتلوا في أفغانستان والعراق، كما استقطب عناصر من "داعش" من إدلب ودير الزور. وقد رفض التنظيم الذي يقدر عدد مقاتليه بنحو 1200 مقاتل، بوضوح الاتفاق الروسي – التركي، وأصدر بيانًا دعا فيه إلى "النفير" في مواجهة ما أسماه اتفاق "دايتون". ويتوقع أن يشكل التنظيم عائقًا أمام تطبيق الاتفاق، خصوصا أن مقاتليه ينتشرون في مناطق في ريفي إدلب الغربي واللاذقية الشمالي..
أما التنظيم الثالث الذي يمكنه أن يعارض الاتفاق، فهو الجيش الإسلامي التركستاني، الذي ينحدر أغلب مقاتليه من منطقة تركستان الشرقية (أو إقليم شينجيانغ) ذات الأغلبية المسلمة غرب الصين، ويرتبط التنظيم الذي أُسس في سورية في حزيران/ يونيو 2014، تحت اسم "الحزب الإسلامي التركستاني في بلاد الشام"، بتنظيم القاعدة، ويقدّر عدد مقاتليه بنحو 2300. وينتشر مقاتلو الجيش في جسر الشغور ومناطق أخرى على حدود محافظة إدلب مع اللاذقية. يُعدّ التنظيم قريبًا من هيئة تحرير الشام؛ وهو مثلها، لم يصدر حتى الآن موقفًا من الاتفاق، ويُتوقّع أن ينسحب موقف الهيئة على موقف الحزب بسبب قربه منها وتحالفه معها.
وهناك عدد آخر من الفصائل المتشددة الرافضة للاتفاق، مثل أنصار الدين، وأنصار الفرقان، وأنصار التوحيد، وغيرها، إلا أنه لا يعتدّ بها لصغر حجمها، ليبقى موقف هيئة تحرير الشام الأهم، وتترتب عليه تداعيات كبيرة؛ نظرًا إلى حجمها ونفوذها الكبيريْن في إدلب. ويبدو أن الجانب التركي أخذ على عاتقه التعامل مع كل فصيلٍ من شأنه عرقلة تنفيذ اتفاق إدلب، مقابل ألّا تشنّ روسيا وحلفاؤها هجومًا واسع النطاق على محافظة إدلب، بحجة القضاء على التنظيمات المتطرّفة. ويعني هذا أن احتمال وقوع صدام عسكري بين الفصائل الرافضة اتفاق إدلب وكل من تركيا والفصائل السورية التابعة لها سوف يتزايد في الفترة المقبلة، إذا أصرّت هذه الفصائل على عدم تنفيذ الاتفاق. وفي إشارة إلى عزمها تنفيذ الاتفاق، أرسلت تركيا تعزيزات عسكرية كبيرة إلى منطقة خفض التصعيد في إدلب، تشمل دبابات وعربات مدرعة لنقل الجنود.
خاتمة
مثّل اتفاق إدلب الذي تم التوصل إليه بين الرئيسين التركي والروسي محطةً أخرى في مسيرة تعاون بينهما، بدأت في سورية، بعد فشل المحاولة الانقلابية في تركيا في منتصف تموز/ يوليو 2016. وعلى الرغم من أن روسيا استخدمت تقاربها مع تركيا غطاءً لحسم الصراع على
في كل الأحوال، لا يمثل الاتفاق تحولًا في مسار الأوضاع في سورية، ولا يشكّل منعطفًا، بل مخرجًا جنّب محافظة إدلب، التي تضم نحو ثلاثة ملايين مدني، معركةً دامية، ريثما تتضح صورة التفاهمات الإقليمية والدولية حول قضايا الحل السياسي في سورية، وكيفية الوصول إليه. فالعملية الرئيسة الجارية حاليًا هي محاولات إعادة ترميم نظام الاستبداد في سورية، ويكمن امتحان القوى السورية والدولية المعارضة لهذا النظام في إفشال هذه العملية، وعدم منحها أي شرعية.