لا تزال الروايات حول الوقائع بشأن الاعتداءات التي حصلت في القاع على المواطنين مساء الإثنين متضاربة، ولو أنّ الهجوم الصباحي قد حُسمت روايته بالإشارة إلى أنّ أربعة انتحاريين نفذوا اعتداءاتهم المتلاحقة وفجروا أنفسهم بين الناس والمسعفين بغية إيقاع العدد الأكبر من الخسائر في صفوفهم.
لكن حقيقة ما حصل ليل الإثنين لا يزال غير محسوماً. تقول الرواية الرسمية الصادرة عن الجيش اللبناني إنّ أربعة انتحاريين آخرين هاجموا كنيسة البلدة (انتحاريان اثنان)، وانتحارياً آخر حاول الهجوم على مركز أمني تابع للاستخبارات العسكرية، في حين حاول رابع الاعتداء على آلية لوحدات الجيش. لكنّ رواية محلية أخرى تشير إلى أنّ الاعتداءات تمّت بواسطة قنابل يدوية، وأنّ الاعتداءات المسائية لم تبلغ محصّلتها سوى قتيل واحد وهو انتحاري، في حين أن المهاجمين الثلاثة الآخرين لاذوا بالفرار. ما يعني، في حال صحة هذه الرواية، أنّ منفذي الاعتداءات المسائية ليس هدفهم تفجير أنفسهم، وما يشير أيضاً إلى أنهم لا يزالون طليقين في محيط البلدة وعلى حدودها.
تكرّر الاعتداءات بين فجر الاثنين وليل الاثنين - الثلاثاء، يعني في الأساس أنّ الانتشار الذي نفذته وحدات الجيش والأجهزة الأمنية في القاع وحولها لم يأت بأي نتيجة ولم يمنع المهاجمين من شنّ هجوم ثانٍ.
كما أنّ التضارب في الروايتين يضع السلطة الأمنية والسياسية اللبنانية في مأزق أكبر، خصوصاً أنّ الحكومة لم تتحرك إلا بعد مرور 12 ساعة على الاعتداء الثاني (أي أكثر من 30 ساعة على الاعتداء الأول)، وكذلك قادة الأجهزة الأمنية الذين تأخروا، حتى ظهر أمس الثلاثاء، لعقد اجتماع لمتابعة الأوضاع الأمنية بشكل رسمي. وأتت نتائج العجز الحكومي على الرغم من كل الأجواء الأمنية والسياسية التي سادت الساحة اللبنانية من مطلع يونيو/ حزيران الحالي، المنبّهة من حصول اعتداءات على المناطق اللبنانية.
كما أنّ الاعتداءات وقعت بعد ساعات على موقف أطلقه وزير الداخلية، نهاد المشنوق، قال فيه إنّ "الوضع الأمني تحت السيطرة والحوادث التي تقع، مقارنة بأي عاصمة أوروبية، هي أقل"، معتبراً أنّ هذا الواقع يجب أن يشجّع السياح للمجيء إلى لبنان. فجاءت الاعتداءات على القاع لتؤكد حجم الاهتزاز الأمني في لبنان.
وإذا كان العجز الأمني وارداً ويمكن تفهّمه في ردع هجومات انتحارية مماثلة، إلا أنّ مشهد تسلّح العائلات والمواطنين في القاع وغيرها جاء ليعرّي الأمن اللبناني بشكل كامل. وتحدث أكثر من مصدر محلي لـ"العربي الجديد"، عن أنّ الأهالي هم من أطلقوا النار واشتبكوا مع المهاجمين وشكّلوا خط الدفاع الفعلي عن البلدة، في حين التزمت عناصر الجيش مراكزها لحين تمكّنت من الانتشار في البلدة لكن دون أن تتمكّن بدورها من منع حصول الاعتداءات المسائية.
ويضع هذا المشهد القوى الأمنية وكأنها وقفت وراء الأهالي، وهو ما يعزّز عجز هذه السلطات الأمنية عن حماية المواطنين وينتقص بالتالي من ثقة الأهالي بقدرة الدولة على حمايتهم. من دون أن يلغي هذا الواقع أنّ للمجتمعات المحلية ميول تاريخية إلى حمل السلاح، تحديداً في البقاع حيث لا يزال المنطق العشائري طاغياً اجتماعياً، لحماية "الأرض والعرض وردع المعتدي"، وهي عبارة منتشرة في المجالس البقاعية العشائرية. يضاف إلى ذلك أن ذاكرة حمل السلاح لا تزال راسخة في أذهان اللبنانيين منذ سنوات الحرب الأهلية. وإذا كانت مسألة الدفاع عن النفس بحمل السلاح مشرّعة اجتماعياً وقانونياً وحتى منطقياً، يبقى أنّ المسلحين انتشروا في شوارع القاع بغطاءات سياسية وحزبية، من عضو كتلة القوات اللبنانية النائب أنطوان زهرا أو النائب المقرّب من حزب الله وتكتل التغيير والإصلاح (برئاسة النائب ميشال عون)، إميل رحمة. كما أتت زيارة صهر عون، القائد السابق لفوج المغاوير، العميد المتقاعد شامل روكز، إلى القاع لتعزّز مشهد العراضات المليشياوية وسط اكتفاء السلطات اللبنانية بمطالبة المواطنين المسلحين، بلغة خجولة، ملازمة منازلهم وترك الأمور للأجهزة المختصة.
ويكرّس هذا المشهد أزمة "السلاح غير الشرعي" والسلاح المتفلّت بأيدي المواطنين. كما يعزز منطق "الأمن الذاتي"، ولو أنّ حمل هذا السلاح اليوم يأتي في سياق الدفاع عن النفس من هجومات واعتداءات ينفذها انتحاريون وليس تعميماً لظاهرة "التشبيح المسلّح" الذي تشهده الأراضي اللبناني ويمكن أن يوقع ضحايا وجرحى نتيجة خلافات شخصية. ومع انتشار صور المسلحين بغطاءات سياسية مختلفة، يمكن القول إنّ كل القوى السياسية باتت متشابهة في دعم انتشار السلاح غير الشرعي بدل التأكيد على أولوية دعم القوى الأمنية اللبنانية وترسيخ مبدأ حصرية السلاح بيد الدولة اللبنانية. ولن تمحو التبريرات التي يقدمها حزب القوات اللبنانية، القائلة نقلاً عن مسؤولين فيه، إنّ "السلاح المنتشر هو سلاح فردي وغير منظّم عكس ما هي حالة سلاح حزب الله الذي له ارتباطاته الخارجية"، واقع أنه دعم هذه الظاهرة بعيداً عن مطلبه السياسي الأساسي بنزع سلاح حزب الله وضبط السلاح المتفلّت.
وعلى المستوى السياسي، أتى منطقياً إجماع المسؤولين اللبنانيين على ضرورة توظيف هذه الاعتداءات لتعزيز الوحدة الداخلية والدفع في اتجاه إيجاد الحلول للأزمة السياسية وانتخاب رئيس جديد للجمهورية. ولو أنه سبق اعتداءات القاع، موقف الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، الذي دعا "معارضيه إلى الشرب من مياه البحر المتوسط"، ما من شأنه تعطيل أي حلّ أو نقاش ممكن مع الحزب الذي يعطّل انتخابات الرئاسة.
وبينما ينتظر الجميع انتهاء التحقيقات الأمنية والميدانية لكشف كافة ملابسات اعتداءات القاع، لا تزال الآذان بانتظار سماع ما قد يصدر عن "جبهة النصرة" أو تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، المتّهمان الأولان والمبدئيان بتنفيذ هذه الاعتداءات. جبهة النصرة للردّ على المعارك التي يخوضها حزب الله في حلب، و"داعِش" في محاولة لفتح جبهات جديدة للتخفيف من خسائره في الفلوجة والرقة.