حاول رئيس الوزراء بوريس جونسون، بدايةً، تطبيق نظرية "مناعة القطيع" على سكان المملكة المتحدة، وهو رهانٌ أثبت أنه لم يكن فقط محفوفاً بالمخاطر، بل خرافةً في وجه الفيروس القاتل. بعدها ترافق الانتقال لمرحلة الحجر المنزلي في بريطانيا، مع اقتحام كورونا "داونينغ ستريت"، في شهر مارس/ آذار الماضي، لتدخل البلاد مرحلةً أخرى من الفوضى الطبية، تعددت عناوينها، وقد تكون مشابهة لما واجههه عددٌ كبير من دول العالم، قبل بلوغ مرحلة العودة التدريجية للحياة الطبيعة، التي أعلنها جونسون في 10 مايو/ أيار الحالي. اليوم يقترب عدد الوفيات البريطانية جرّاء الوباء، من 50 ألفاً، وبمنظور إدارة الوباء، تحتل بريطانيا مرتبة أفضل بقليل من الفوضى التي تعيشها الولايات المتحدة، لكنها تتراجع كثيراً، إذا ما قورنت بإدارة ألمانيا وكوريا الجنوبية لتفشي "كوفيد 19". وسط ذلك، يجد جونسون نفسه محاصراً بالوباء، الذي أفقده الكثير من شعبيته، بانتظار محاسبة وطنية سياسية وشعبية على أدائه وإدارة حكومته هذا الملف، وحيث يقف حزب العمال المعارض في الصف الأمامي، مستغلاً أزمة لم تكن يوماً على أجندة العمل السياسي في بريطانيا ما بعد "بريكست".
وقد يكون ما كتبه موقع "ذا كونفرزايشن"، في الأول من شهر مايو الحالي، حول التكتيكات التي سيستخدمها جونسون لتجنب اللوم، في إدارة الوباء، الأفضل لتوصيف حال حكومته المحافظة، التي جاءت بتفويضٍ قوي إثر انتخابات ديسمبر/ كانون الأول الماضي. ما ذكره الموقع، يضاف إليه تقريرٌ مفصل آخر لموقع "بلومبيرغ" يعود لـ24 إبريل/ نيسان الماضي، يلخص وضع حكومة المحافظين قبل إعلان جونسون خطته التدريجية لإنهاء العزل، وقبل مواجهته أزمة مستشاره الأول دومينيك كامينغز. وتبين أن الأخير خرق إجراءات العزل فيما كان البريطانيون يلتزمون منازلهم وفق تدابير صارمة، وخشية تلقي غرامات مرتفعة، ما حرّك لديهم عقدة السلطة مقابل الشعب.
يجزم "بلومبيرغ" بأن بريطانيا "كان لديها الوقت الكافي لتجنب الوباء، لكن الأكاديميين وخبراء العِلم والنُّقاد، يرون أن رئيس الوزراء أضاع تلك الفرصة". وبحسب الموقع، فقد اجتمع في 16 مارس/ آذار الماضي، فريق المجموعة العلمية الاستشارية للطوارئ، ليخلص إلى أن البلاد تواجه مشكلة حقيقية، وأن نسبة الإصابات بالوباء في صفوف الأهالي وطلاب المدارس والطواقم التعليمية، أعلى بكثير مما توقعوا. ظلّ جونسون قبلها، ولأيام عدة، يرفض إغلاق 30 ألف مدرسة موزعة في البلاد، بحجة أن مستشاريه العلميين أكدوا له أن إجراءً كهذا "ليس ضرورياً". وبحسب الموقع، إن التأخر في إغلاق المدارس، هو فصل واحد من فصول الاستجابة البطيئة للحكومة لخطر كورونا، فجونسون تلكأ أيضاً في طلب إغلاق المطاعم والحانات والمراكز والمحال التجارية، وإرسال السكان إلى منازلهم. بالإضافة إلى ذلك، يقول المنتقدون إن بريطانيا كان لديها كذلك الفرصة في فبراير/ شباط الماضي، للتزود بالمعدات الطبية والوقائية اللازمة، قبل اشتداد الطلب العالمي عليها. وبرأي معدي التقرير، حمل إنذار المجمع العلمي أيضاً طابعاً سياسياً، بعدما كان وزير الصحة مات هانكوك، قد أكد في 23 يناير/ كانون الثاني الماضي، أن "بريطانيا بأكملها هي دائماً جاهزة لهذا النوع من تفشي الأوبئة". ومن الذين حضروا الاجتماع "العاصف" في 16 مارس، كريس ويتي، كبير الأطباء المسؤولين في إنكلترا، وباتريك فالنس، كبير المستشارين العلميين للحكومة، اللذان أصبحا وجهي الحرب على الوباء في بريطانيا، وقد وافقا على ضرورة إحداث الانعطافة في التعاطي مع الوباء، على الرغم من إبدائهما خشيتهما على صدقية الحكومة.
هذه الصدقية، عبّر عنها موقع "ذا كونفرزايشن"، مشبهاً وضع جونسون بوضع رئيس الحكومة الأسبق ديفيد كاميرون، الذي كان عليه أن يحيل سنوات ما بعد الانكماش الاقتصادي في عام 2008، على "أزمة الدين الوطني التي أوجدها حزب العمال"، على الرغم من أن الارتفاع القوي في الدين العام البريطاني كان مرده خطط الإنقاذ التي وضعتها المصارف، والتي حظيت بدعم الحزبين، "المحافظين" و"العمال". ورأى الموقع أن بريطانيا لم تلجأ إلى نظرية الهروب إلى الأمام التي اعتمدها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بإلقاء اللوم على الصين، بؤرة تفشي الوباء الأولى، بل ستبقى تعتمد في الوقت الراهن على سياسة تأطير الأزمة لتقليل تداعياتها على أجندة جونسون الحكومية، وهو أن الأزمة ليست صنيعة الحكومة، بل فرضت عليها. لكن هذا التأطير سيستمر إلى حين، لتصبح الاستراتيجية الأكبر اللاحقة، إطلاق مرحلة الهجوم على الصين، في تباعد مع عهد كاميرون حين كانت بكين تُغازل بريطانياً كشريك تجاري كبير. وبحسب الموقع، فإن ترويج أن الفيروس "مستورد"، سيكون السلاح المقبل، خصوصاً إذا ما توسع الشرخ في النظام العالمي الليبرالي، والعولمة، نتيجة ضغط الفيروس.
وبالعودة إلى الوقائع على الأرض، فقد اضطر جونسون في 12 مارس إلى الاعتراف بالخطر الذي يحدق ببريطانيا جرّاء الفيروس، منهياً صلاحية سياسة مناعة القطيع، وحملة "اغسلوا أيديكم جيداً من فضلكم". وطالبت الحكومة في 17 مارس المواطنين باتخاذ إجراءات صارمة في اتجاه العزل المنزلي للحدّ من تفشي الوباء، مع بقاء المدارس مفتوحة. لكن في 24 مارس، ومع بلوغ الوفيات في حينها فقط 335 وفية، أعلن جونسون قرار الإغلاق التام لمدة ثلاثة أسابيع. في ذلك الحين، أظهرت دراسة لجامعتي "يونيفرسيتي كولدج لندن" و"كامبردج"، تفيد بأن استراتيجية "مناعة القطيع" ستؤدي إلى وفاة نحو 70 ألف شخص في البلاد. في 27 مارس، أعلنت لندن أن جونسون مصاب بكورونا. وفي 10 مايو الحالي، أعلن رئيس الوزراء أن الإغلاق سيستمر إلى الأول من يونيو/ حزيران المقبل، كاشفاً عن خطط حكومته الحذرة لرفع القيود تدريجاً.
ووصف جونسون خطته لإعادة فتح البلاد، بالمشروطة، منتقلاً من الاعتماد على "مناعة القطيع"، إلى الاعتماد على "الحسّ الفطري السليم" لدى البريطانيين. وقال إنه أصبح بإمكان السكان العودة للعمل من مكاتبهم، بشرط تفادي استخدام وسائل النقل العامة. وأوضح أن برنامجاً لـ"كوفيد 19" مؤلفاً من خمس درجات، سيحكم كيفية إرخاء القيود تدريجاً، آملاً أن يعود بعض الطلاب إلى مدارسهم بحلول الأول من يونيو المقبل. كذلك ستتضمن المرحلة الحالية إعادة فتح المحلات التجارية، إذا دُعم ذلك من المجتمع العلمي. وستشمل المرحلة المقبلة إعادة فتح بعض أفرع قطاع السياحة والأماكن العامة، ولكن ليس قبل الأول من يوليو/ تموز، واصفاً الخطوات بـ"مسودة أولى لخريطة طريق لإعادة فتح البلاد". كذلك هدّد بزيادة الغرامات على "الأقلية الصغيرة" التي ستخرق التدابير. وفرضت الخطة قيوداً على الاجتماعات الداخلية والخارجية، ومراعاة التباعد الاجتماعي، فيما سيكون معيار الشروط "ليس الاقتصاد والتمسك بالأمل"، بل "العلم والداتا والصحة الوطنية". وأوضح الخبراء أن المعيار هو إبقاء رمز "آر" تحت الرقم واحد، ما يعني أن شخصاً يحمل الفيروس ينقل العدوى لشخص آخر واحد فقط. واعتبرت خطة جونسون متناقضة، لما أوصت به من رفع القيود على التمارين الرياضية، مع إمكانية ذهاب المواطنين إلى صالونات التجميل والشواطئ، إذا تمكنوا من مراعاة التباعد الاجتماعي.
وعلى الفور، اعتبر المنتقدون للخطة أن جونسون يسعى للوصول إلى المستحيل، من دون أي إمكانات متوافرة، ومع استمرار الوباء من دون لقاح. ويأتي ذلك برأيهم، في ظلّ وجود ثغرات في النظام البريطاني الصحي لكبح الفيروس، ولا سيما في ما خصّ عدد الاختبارات، التي يبدو أنها تتطلب أياماً للحصول على نتائجها، وكذلك في القدرة على ملاحقة المخالطين.
في هذه الأثناء، يقف زعيم حزب "العمال" الجديد، كير ستارمر، بالمرصاد لجونسون، وهو ينبش في أخطاء الحكومة، رافعاً أولاً أسئلة عن أسباب عدم فرض الحجر المنزلي في وقت مبكر، وتأخر توفير المعدات الوقائية الضرورية، خصوصاً للعاملين في القطاع الطبي. ويضغط ستارمر للاعتراف بأن نظام الاختبارات الذي وضع خلال الأسابيع الأولى من تفشي الوباء، كان غير فعال. أما بالنسبة إلى خطة إعادة الفتح، فرأى زعيم "العمال" أن خطاب جونسون يفتقر إلى الوضوح والتوافق، متسائلاً عن كيفية الطلب من الموظفين الذين لم يكن باستطاعتهم العمل من المنزل، التوجه إلى أعمالهم خلال مهلة 12 ساعة، ومن دون الاعتماد على النقل العام.
من جهته، تساءل زعيم "الليبراليين الديمقراطيين" إد دافي، عن السبب الذي يدفع الحكومة إلى إطلاق رسالتها اليوم، "ما يهدد بالقضاء على ما حاول البريطانيون إنجازه خلال الأسابيع الماضية". بدوره، اعتبر زعيم "الحزب القومي الإسكتلندي" إيان بلاكفورد، أن "الرسائل المتناقضة تؤدي إلى فقدان الأرواح"، منتقداً الانتقال سريعاً من سياسة "ابقوا في البيت" إلى "ابقوا متأهبين". ورأى رئيس اتحاد الشرطة في إنكلترا وويلز، جون أبتر، أن بيان الحكومة الأخير سيصعب على الشرطة متابعة القوانين الجديدة. كذلك أبدت نقابات التجارة اعتراضها.
في المحصلة، وبحسب موقع "ذا كونفرزايشن"، فإن أزمة كورونا ستغير نظرة البريطانيين إلى ما بإمكان دولتهم القيام به، وما أصبح واضحاً أنها تعجز عن فعله. وإذا كان "بريكست" قد أعاد بريطانيا إلى رقعتها الطبيعية، فإن "كورونا" قد أظهر مكامن ضعفها.