استهداف بدن التاريخ وروحه في سوريا
يختلف مفهوم التاريخ عن بقيّة المفاهيم، لارتباطه الوثيق بمدلولاته، فهو ليس مفهوماً تجريدياً، يأخذ بصفة واحدة. إنه يستمدّ معناه من تجاوز الفعل ذاته عبر الزمن، وهذا ما جعل للكون تاريخاً، كما لباقي موجوداته (الإنسان والحيوان والنبات والجماد). وللتاريخ روح وبدن، روحه في المكتبات، وبدنه في اللقى والأوابد الأثرية.
روحه تتألق كلما فتح قارئٌ كتاباً. أَما بدنه فقد تأتي عليه السنون، ويصبح خبراً بعد عين.
لهذا، كانت المتاحف، ولهذا، فإن استهداف المكتبات والمتاحف يعتبر استهدافاً للتاريخ. وفي كل الحروب يستهدفان، لتنقطع أواصر الأمم بتاريخها، فبعدها المعرفي يجعلها عرضة الى حقد الأعداء، وهذا ما حصل إبان الاحتلال الأميركي للعراق. وفي التاريخ أمثلة كثيرة. أمّا أن يتقاتل الإخوة، وتستهدف المكتبات والمتاحف، فهذا ما لم يحصل، إلا في سوريا !! ومكتبة المركز الثقافي العربي في محافظة الرقة، كانت الشاهد والشهيد. الشاهد، لأنها تكونت عبر أكثر من نصف قرن، بجهودٍ ساهم فيها المثقفون والإداريون وأصحاب القرار في محافظة الرقة، إضافة إلى المساهمات الدولية، وكانت تقوم بها سفارات تلك الدول، ما جعلها أهم مكتبة بين مكتبات المراكز الثقافية المنتشرة في المحافظات السورية؛ إذ أنها تحتوي على أكثر من 60 ألف كتاب، في العلوم كافة، والمعارف الإنسانية، بل واللغات أيضاً. لهذا، لم تكن مرجعاً لطلاب المدارس والجامعات فحسب، بل كانت مراحاً لكل الباحثين عن المعرفة، وموئلاً غنيّاً بالمراجع. إضافة إلى ما تحتويه من كتب الأدب (الشعر والقصة والرواية)، العربي منها والمترجم، إضافة إلى تاريخ الأدب، والنقد الأدبي، والسّير والتراجم والأعلام والموسوعات، ونخبة من الكتب المختصة في الفن التشكيلي، وأعلامه، والنحت، والتصوير، والعلوم الدينية والفلكية، وأمهات الكتب العربية، وغير العربية، مما هو مترجم، وغير مترجم، وما تقتضيه المعرفة، والحاجة، والمتابعة. ما شكل صلة وثيقة بين القارئ الرقيّ والكتاب.
مكتبة مديرية الثقافة خلاصة تجربة عميقة في المعرفة، وقد أسست لحالة ثقافية في تلك المحافظة النائية في سوريا، التي اسمها الرقة، وتزيد نسبة الأمية فيها على 34%، حسب الإحصاء الرسمي عام 1996. وكما أنه لا توجد طريقة مشرفة للقتل، لا يوجد مبرر منطقي لاستهداف المكتبات، إِلا إذا كانت روح التاريخ هدفاً مشروعاً. وليست نتائج الفوضى التي اجتاحت سوريا في حاجة إلى مبررات، ولهذا استهدفت مكتبة المركز الثقافي العربي في الرقة، واحترقت جهاراً نهاراً، وتحولت من واقع إلى ذكرى، وانطوت معها جهود نصف قرن من التأسيس.
عصفت الهمجية بأحلام المثقفين، وحولتها إلى سراب، ثم تبعها المتحف الذي يقدر عدد القطع واللقى الأثرية فيه، بما لا يقل عن ثلاثة آلاف قطعة، موزعة على خزائن العرض، وعلى المستودعات. وقد اشتهر متحف الرقة بلوحات فسيفسائية تعود إلى القرن الخامس الميلادي، وبمجموعة كبيرة من الرقيمات المسمارية، إضافة إلى خزانة الرصافة، التي تضم مكتشفات ولقى أثرية في موقع مدينة الرصافة، وتضم هذه الخزانة مقتنيات ولقى من العصور الآشورية واليونانية (الهيلينية) والرومانية والإسلامية الأموية. إضافة إلى آثار مدينة "توتول" القديمة.
ومتحف الرقة بناء قديم، بني في الفترة العثمانية سنة 1861، واستخدم سابقاً، داراً للسرايا، ومتحفاً بدءاً من عام 1981.
قبل أن ترتدي الرقة خوفها، وتمضي في المجهول، كان اسم الخليفة العباسي، هارون الرشيد، يحتل إحدى حدائقها. ينتصب تمثاله النصفي في مدخلها، مكتفياً بوجوده الرمزي. لم يكن يعلم أَن الرموز لا يحميها التاريخ، بل تحتاج إلى قوة واقعية، تحميها لكي لا تتدحرج بين أقدام المسلحين، كما حدث فعلاً، في حديقة الرشيد. كان يعتقد بأَن علاقة الرقة مع معطيات حضارة الألف الثامن قبل الميلاد، في تل المريبط، ستجعلها تمنح اسمه المقام الذي يليق به.
قبل أَن ترتدي الرقة خوفها، وتمضي في المجهول، كان هشام بن عبد الملك فرحاً بقداس الرصافة، الذي أقيم في كاتدرائية القديس سيرجيوس، بين الأَوابد الأثرية، وشارك فيه المسلمون والمسيحيون في صلاة موحدة.
قبل أن ترتدي الرقة خوفها، وتمضي في المجهول، كان السنونو يتدثر بأجراس الكنائس، ويطيب للحمام الهديل، على شرفات المآذن.
القوة غاشمة، ما لم يحكمها العقل، وقد استقال العقل السوري، منذ أكثر من سنتين.