يحدث في الرقة الآن
لم تكن الرقة (السورية) يوماً مدينة. كانت مراحاً ومستراحاً للأحلام المؤجّلة. مدينة يقضُّ مضاجعها الانتظار، تتوسّد ضفتي الفرات، وتحلم بالماء! مدينة ترقب قدرها، بدلاً من أن تصنعه، مأخوذة بأحلام الآخرين. استهلكها حزب البعث، حتى جفّ ضرعها، فخرجت من يأسها إلى موتها في أحضان "داعش". بعد غيابٍ طال، عدتُ إليها، أَبحث عن وجوه أحبها، فطالعتني الوجوه التي أخافها. كان السلاح السلعة الأكثر انتشاراً في شوارعها، وملصقات النعي تزاحم آثار الرصاص على الجدران. لم يعد فيها أَحدٌ يسأل عن القاتل، كلهم يسألون عن المقتول.
كانت السارية التي تتوسط المدينة تحمل علماً أَسود كبيراً، كُتب عليه بالأبيض: "لا إله إلا الله"، وعلى الأرض ألف إله يحمل السلاح! وطابور طويل من الناس أمام الأفران. هو الخبز والموت، لا ثالث لهما في الرقة التي ودَّعت الدورة السادسة من مهرجان الشعر العربي، لم تعد في وجهها بهجة القصيدة. الرقة التي احتفت بمهرجان الرواية العربية سبع سنين، لا أحد يهتم بروايتها اليوم، وأَطفالها في مخيمات هاتاي والريحانية يتسولون الدفء في قلوب الغرباء. 29 ألف عائلة من الرقة تحولت إلى مخيمات اللاجئين، 7000 طالب جامعي ينتظرون قراراً بنقلهم من جامعتي الفرات والاتحاد، وأكثر من 30 ألف طالب ابتدائي وإعدادي وثانوي انقطعوا عن مدارسهم، والمدارس التي بقيت على قيد التعليم أصبحت ملزمة بتطبيق شريعة داعش!
في المساء، حَمَلتْ وسادةُ أحلام اليقظة إليّ ذكرياتٍ عن مكانة الرقة في المشهد الثقافي، لأنها المكانة الوحيدة التي انتزعتها بفضل أَبنائها، إذ إنها، كمدينة زراعية، لم يستطع فلاحها أَنْ يطوّر آليات إنتاجه الزراعي، ربما لأسبابٍ موضوعية. وكمدينةٍ تهتم بتربية الماشية، لم يستطع مربو الماشية تطوير إنتاجهم الحيواني، ولم تستفد من وجودها على ضفتي الفرات، لا بل تحوّل الفرات إلى مكبٍّ لنفاياتٍ متعددة المصادر! لهذا، كان المشهد الثقافي هو الأبرز، وساهم في ذلك وجود المركز الثقافي الذي تحوّل في ما بعد إلى مديرية ثقافة، يتبع لها 41 مركزاً ثقافياً، تمتد على مساحة ريفها المترامي الأطراف، 11% من مساحة سوريا. وكان لذلك المركز عظيم الأثر في حياة الطلبة أولاً، ومن ثمّ انتشر تأثيره، بفعل الأمسيات والمحاضرات والندوات والمعارض، فتحققت الصلة بين المواطن والمعرفة، حتى بلغ عدد كتب المكتبة نحو 60 ألف كتاب، وإِذا أُضيف إليها كتب مكتبات المراكز الثقافية الفرعية التابعة لمديرية الثقافة، يصبح رقماً مهولاً.
مؤسفٌ أن تلك المكتبة استُهدفت في أول غارة جوية تتعرض لها المدينة، فاحترقت عن بكرة أبيها، باستثناء كتاب واحد، وهو، للمفارقة، "نهاية التاريخ" لفرانسيس فوكوياما. واحترقت مئات اللوحات التي اشتُريت من المعارض، ورسمها فنانون في معسكراتٍ كانت تقيمها مديرية الثقافة لكبار الفنانين العالميين، ولوحات الخط العربي التي كان يشارك بها الخطاطون العالميون في مسابقة عبد الحميد الكاتب للخط العربي، كانت تقيمها مديرية الثقافة كل عام. ولم يقتصر الخراب المعرفي على مديرية الثقافة، بل امتدّ إلى المتحف الوطني الذي يحتوي على 8900 قطعة أثرية، وفقاً لسجلات رسمية. وقد نُهبت كلها، ونقلت إلى خارج المحافظة، وربما إلى خارج سورية!.
لم أستطع النوم بحضور هذه الذكريات، فارتديت ثيابي، ويمَّمت شطر بيتٍ قريبٍ لأحد الأصدقاء، لأجد عنده ثلةً من شباب كانوا محرّك الحراك السلمي في المحافظة، وتحوّلوا في ما بعد إلى "التنسيقيات". بالمقارنة مع صورهم في ذاكرتي، حيث كان الحماس يرسم ملامحهم آنذاك، أَستطيع القول إنني لم أرهم في زيارتي الأخيرة، رأيت انكسارهم، وخوفهم مما ينتظرهم، وقد تحدثوا، كلهم، عن رغبتهم بمغادرة المدينة! فتساءلت: إذا غادرت نخبٌ المدينة، أيَّ مدينةٍ كانت، فإن عامَّتها لن تستطيع فهم ما يُحاك لها، وقد يبيعون أنفسهم نتيجة الجهل والخوف، وبالتالي، ستجعل مغادرتهم المدينة عرضةً لضياعٍ يطول أمده. أجابني أحدهم أنه لم تبق أمامهم خيارات، فإن لم يجدوا ذريعةً سياسية يعتقلونك بناءً عليها، ثمّة أَلف ذريعة دينية تأخذ بيدهم إلى تكفيرك. سألتهم إن كانت "داعش"، فعلاً، تريد تطبيق الشريعة الإسلامية، فأجابوا أَنها تريد فرض سطوتها وسيطرتها على الناس، بذريعة الإسلام.
في ساعة متأخرة من الشوق، حضر أحد الشباب من مجموعة "بصمة"، تلك الثلّة من الشباب حاولت، بما تستطيع من إِمكانات، أَن تكون صورة مشرقة للرقة. بدأَ الحديث، قبل أَن يخلع نعليه في عتبة الباب: الحمد لله، انتهينا اليوم مساءً من تجهيز مدرسةٍ لإيواء نازحين قادمين من بلدة سفيرة، حيث تم استبدال زجاج النوافذ المكسّر بمادة الفيبر، وتم إِيصال الكهرباء إِلى الغرف في المدرسة، إِضافة إلى توفير تجهيزاتٍ تحتاجها العائلات في إقامتها. فوجدتني بين أَملٍ ويأس، وكلاهما ينتمي للرقة الآن!، فابتسمت لمفارقةٍ صنعها الموقف المتناقض بين الشباب، وقلت له، قبل أن يأخذ مكانه بالجلوس: هل أنت متفائل؟ فقال: جارتنا التي فقدت اثنين من أبنائها متفائلة. زلزلني جوابه، وارتبكت. تلك قصة الرقة التي كانت تسأل عن الحياة، فأجابها الموت.