كما بكى الشعراء الجاهليون ووصفوا رحيل محبوباتهم واختفاء مساكنهنّ، يبكي باحثو التاريخ والآثار في موريتانيا هذه الأيام على اختفاء أطلال العديد من المواقع الأثرية، وتناسي بعضها الآخر، أو تلفه أثناء مواجهته الظروف المناخية الصحراوية وعوامل التعرية، إضافة إلى تحوّل العديد من المواقع الأثرية إلى سوق كبير للتحف.
ليس من الغريب أن نرى في شوارع العاصمة نواكشوط طاولة، أو محلاً لبيع التحف والآثار التي قد لا نجد مثيلاً لها في المتحف الوطني، الذي أضحى مجرّد مؤسسة للمعارض والأنشطة الثقافية من ندوات وأمسيات شعرية؛ فالعديد من القطع الأثرية النادرة تجد طريقها إلى متاحف ومنازل الأثرياء في أوروبا وأميركا.
العديد من الباحثين وعلماء الآثار الغربيين المهتمين بمنطقة الصحراء وجنوبها، يقصدون أصحاب الطاولات لتصوير أو اقتناء قطع أثرية قد يصل عمرها إلى آلاف السنين، خصوصاً نماذج من أدوات القتال والعملات المعدنية المتداولة في عصر مملكة غانا الزنجية، التي كانت عاصمتها في مدينة كومبي صالح، شرق موريتانيا.
أكّدت مصادر خاصة لـ "العربي الجديد"، أن وزارة الثقافة الموريتانية تراكمت عليها ضرائب طائلة في مخازن مطار نواكشوط الدولي منذ عام 2012؛ بسبب بقاء مقتنيات تابعة للمتحف الوطني فيها.
كانت هذه المقتنيات قد شاركت في معرض أقيم ضمن احتفالات "تلمسان عاصمةً للثقافة العربية" عام 2012. هذه المجموعة من المقتنيات هي عبارة عن تحف تراثية وقطع أثرية، إضافة إلى آلات موسيقية قديمة عُرضت في قاعات المتحف الموريتاني، وقد عرقل الإفراج عن المقتنيات، عدم وجود ميزانية جاهزة لدفع الضرائب، وعدم التنسيق المحكم بين وزارتي الثقافة والمالية؛ ما أدى إلى تلف العديد من القطع بسبب تراكم الأمتعة فوقها في تلك المخازن.
مثل هذا الأمر، وغيره، أدّيا إلى ضياع وتلف أجزاء من التراث الأثري لموريتانيا، ما اضطر مجموعة من الخبراء إلى دق ناقوس الخطر من أجل إنقاذ الآثار، عبر ورشة أُقيمت في العاشر من الشهر الماضي في نواكشوط، تهدف إلى مكافحة الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية بالتعاون بين "المكتب الوطني للمتاحف" و"منظمة اليونسكو" في المغرب العربي.
شارك في الورشة مجموعة من الباحثين، منهم رئيس "المركز الجامعي للدراسات الصحراوية" في مدينة أطار، والمختص في التراث المادي والأثري، أحمد مولود ولد أيده الهلال.
في حديثٍ إلى "العربي الجديد"، يوضّح ولد أيده الهلال طبيعة المواقع الأثرية في موريتانيا، مشيراً إلى أنّها كثيرة وترجع إلى عدة حقب تاريخية، أغلبها يعود إلى حقبة ما قبل التاريخ. من أبرز هذه المواقع: "آغريجيت" و"الغلاوية" و"البيظ"، فضلاً عن مواقع الفن الصخري (الرسوم الجدارية) في الكهوف في ولايتي آدرار وتكَانت، وعلى ظهر مدينتي تيشيت وولاته، إضافة إلى مواقع الحقبة الوسيطة وأشهرها: كومبي صالح وتكداوست وآزوكَي.
يؤكد ولد أيده الهلال عدم وجود قائمة دقيقة بأسماء ومواقع الآثار: "حقيقةً، ثمّة كثير من المواقع الأثرية غير معروف وغير مصنف، نظراً إلى أنه لا يوجد جرد دقيق لمجمل المواقع الأثرية. نحن نحتاج إلى العمل على إنجاز قاعدة بيانات للمواقع الأثرية الموريتانية؛ وذلك لضبط خارطتها بهدف صيانتها والحفاظ عليها، خصوصاً أن التوسع العمراني لمدننا يجري على حساب المواقع الأثرية".
ويرى الباحث أنه من الممكن أن تكون المدينة قد بُنيت على مواقع أثرية؛ "فنواكشوط، مثلاً، أقيم جزؤها الغربي على كثير من شواهد حقبة ما قبل التاريخ، وكثافة الشواهد الأثرية التي اكتُشفت على ساحل نواكشوط، دفعت الآثاريين إلى منح تسمية "نواكشوطي" أو"nouakchottien" لطبقة أثرية محاذية للسواحل الأطلسية تنتمي إلى العصر الرابع قبل التاريخ، وتتسم بمستوى من التجانس على امتداد أجزاء من الساحل الموريتاني والسنغالي، وتمتاز بوفرة شواهد الآثار".
كما يكشف أنه "خلال عمليات التشجير التي أُنجزت مؤخراً في أطراف نواكشوط، عُثر على شواهد أثرية؛ ما يؤكد ثراء هذا الموقع، ويُنبئ بأنه لم يبح بكل أسرار ماضيه التي لم تتم محاولة استنطاقها أثرياً".
وحول ضياع هذا التراث المادي، يعتبر الباحث "أن عاديات الزمن وما تلحقه يد الإنسان من ضرر، يمثّلان أهم المخاطر التي تهدد المواقع الأثرية، إضافة إلى حركة التوسع العمراني للمدن في أرجاء البلاد، وعمليات التنقيب الواسعة عن المعادن".
هذه الأخيرة، تسبّبت في أضرار كثيرة للمواقع؛ فأصبحت تتمّ بإشراف "المعهد الموريتاني للبحث العلمي لوقاية المواقع الأثرية" الذي ساهم بتكوين فنيين مختصين في الأركيولوجيا الوقائية يتعاونون مع شركات التنقيب عن المعادن بهدف عدم تخريب الآثار، بل وصيانتها أيضاً.
وبرأي الباحث، فإنّ أحد أبرز أسباب ضياع هذه المنقولات الأثرية خلال العقود الماضية، هو عدم تفعيل القوانين المتعلّقة بصيانة التراث، وعدم اتّخاذ إجراءات صارمة في تطبيق قوانين حفظ التراث، إضافة إلى غياب مفتشيات مركزية أو حتى جهوية للآثار.
رغم حظر الاتجار بالمنقولات الأثرية، إلّا أن الباحث مولود ولد أيده الهلال يشير إلى أن ازدهار السياحة الصحراوية في ولاية أدرار بين عامي 1996 و2006، أثّرت سلباً على المواقع الأثرية؛ "إذ نجد أن موقعاً مثل البيظ، لم يعد يحتوي على أي مما كان يزخر به من أدوات أثرية منقولة؛ حيث نهبها السيّاح، والأهالي الذين يبيعونها على قارعة الطريق لهم". يوضّح: "يحصل هذا في مدن ودان وشنقيط وأطار على مرأى من الجميع".
يقترح ولد أيده الهلال سبُلاً لزيادة الوعي تجاه أهمية المنقولات الأثرية والحفاظ عليها؛ إذ يشير إلى الحاجة إلى افتتاح قسم لدارسة الآثار في جامعة نواكشوط؛ "لأننا من البلدان القليلة التي تفتقر في جامعتها إلى الأقسام المتخصّصة في حقل الآثار".
يوضّح: "منذ عهد الاستعمار الفرنسي، وحتى في ظل الجمهورية الأولى، كانت الأبحاث الأثرية تُنجز بدعم فني ومالي فرنسي، وبإشراف وطني على تلك الحفريات التي استمرت بعد الاستقلال. لكن الدولة الموريتانية أسست نهاية عام 1974 المعهد الموريتاني للبحث العلمي للإشراف على برامج البحث الأثري والتراثي عموماً، إلا أن تصنيف فرنسا جل مناطق موريتانيا ضمن "المنطقة الحمراء" إثر مقتل السياح الفرنسيين بالألغام عام 2007، جعل البحث الأثري في بلادنا يتوقف".
يضيف: "لا بد اليوم من تأسيس مدرسة وطنية تُعنى بالآثار، ضمن المفهوم الأكاديمي والتاريخي أقصد بالمدرسة، من خلال بناء قسم لدراسة الآثار في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، لتكوين الشباب الموريتاني الراغب في دراسة هذا العلم". يتابع: "في ظل غياب الدراسة لهذا الحقل، ستبقى آثارنا في اضمحلال مستمر، نتيجة غياب التدخل العلمي الوطني، الذي ينتج عن غيابه تكاثف للمخاطر المحدقة بتراثنا".
من جهة أخرى، يقف عائقٌ أساسي أمام تحقيق مشروع أقسام جامعية خاصة لتدريس علم الآثار؛ هو قلّة المتخصصين من الكفاءات الموريتانية في هذا الحقل.
اقرأ أيضاً: موريتانيا.. تركة الاستعمار اللغوية