27 اغسطس 2020
الأردن وصرخاتٌ لم تُسمع
منذر الحوارات
سادت الأردن أخيراً حالة من اللايقين، فالتراجع ساد قطاعاتٍ كثيرة في بلد اعتاد أن يصف نفسه واحةً للأمن، وساحةً مفتوحةً للحوار الذي لا ينتهي، ففي الوجهة تبدو صورة مؤلمة لشعبٍ أرهق من تقلبات الداخل، وتغيرات المحيط الدموية، حيثما جال ببصره ليس سوى الحروب واللااستقرار.
وفي الداخل حكومة تذهب وأخرى تأتي، والقانون نفسه باق، وقد جاء لسدّ عجوزات في الميزانية نتجت، في جُلها، عن سوء إدارة للموارد الشحيحة أصلاً، في بلدٍ فشلت منظومته السياسية والاقتصادية في زيادة نسبة الاقتصاد الكلي، بحيث تتضاءل نسبة الدين والعجز إلى المجمل العام من الاقتصاد. ومرد ذلك غياب البيئة المشجعة للاستثمار، وربما غياب القوانين اللازمة لذلك، لكن الأهم هو ما يكثر الحديث عنه، بدليل أو بدونه، الفساد المعشّش داخل منظومة الدولة، وغياب الثقة في هذه الفئة والقطاعات التابعة لها.
ليس ما سبق هو الموضوع، بل ربما جزء من المسبّبات، ففي أثناء زيارات وزراء لمحافظات المملكة لترويج نسخة من قانون ضريبة الدخل، الخلافي، برزت ظاهرة غريبة، تمثلت بطرد الوزراء وعدم السماح لهم بالحديث، والتجاوز عليهم بألفاظ بدت قاسيةً وغير مألوفة.
هنا السؤال، في بلد اعتاد فيه الناس وضع مؤسسات الدولة، وبدون قمع، في موقع الإجلال،
وكانت دوماً مصدر افتخارهم، وربما لا مبالغة في القول إنهم يعتبرونها مكوناً رئيساً في هويتهم.. ما الذي حصل؟ وهل مرد هذا السلوك أسباب اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية؟ أم أنها مجتمعة؟
ربما تجتمع الأسباب، فالفقر وغياب الفرص لمستقبل ذي قيمة، بغياب فرص العمل، ولّد لدى الأسر وأربابها شعوراً بالعجز والقنوط. ولعدم وجود مساحاتٍ لعكس هذا العجز، وكذلك الاختناق الاقتصادي في غياب إطار سياسي، يُعبر عن نفسه في تمثيل حزبي على أرض الواقع، يستطيع مراقبة أداء الجهات المنفذة للسياسات وأدواتها ونقدها أو تعديلها، وبسبب ذلك لم يحصل أي تفريغ حقيقي لمخزون الاحتقان المتراكم يوماً عن يوم.
اجتماعياً، هل يمكن لأي محاجج أن يدّعي أن غياب الاستقرار الاقتصادي لا يولد استقرارا أُسريا، وبالتالي مجتمعيا؟ ما الذي جعل مواطنا بسيطا، لا يمتلك من الأدوات سوى صوته، قادرا على الصراخ بهذه القوة، وهذا الثبات، فيقف بوجه دولةٍ وأدواتها بكل ما تمتلك من هيلمان؟
إنها قوة الرأي العام، والأدوات التي طوّرها بشكل سلمي للدفاع عن مصالحه بدون هوادة، فمنذ بدأ الربيع العربي، استطاع المجتمع المدني الأردني أن يستخدم أدواته بكل حرفية وسلمية، فطرح إصلاح النظام ولم يدعُ إلى إسقاطه، واستطاع أن يتحصل على مجموعة من المكاسب، طورت شكلياً منظومته السياسية. وحينما اكتشف عقم تلك التغيرات التي حصل عليها، وبسبب طرح قانون جبائي للضريبة، غايته تغطية نفقات الدولة ومنظوماتها، خرج بقوة، للدفاع عن نفسه، وهي من المرّات النادرة التي تحالفت فيها جميع قطاعات المجتمع، ومن مختلف الطبقات، ونجحت تحت شعار تغيير النهج في إسقاط حكومة خلال عشرة أيام
عبّرت تلك الحادثة عن تغيير عميق في حركيّة المجتمع، والطريقة التي ينظر فيها إلى مصالحه، وشكلت تغيراً لم يلحظه كثيرون في نظرة المجتمع إلى رجال الدولة الكبار، وموظفيها المرموقين، محتواه أن هؤلاء جزء من منظومة الفساد التي تسرقهُ حقوقه ومكتسباته المفترضة، وهم بالتالي ضمن منظومة أهدافه المقترحة. لكن تغيير الحكومة لم يحقق مبتغاه، إذ سرعان ما انقلب رئيسها على وعوده، وأعاد القانون سيّئ الذكر، وبتغييرات لم تمسّ جوهره، وقرّر أن يخوض تجربة ترويجه بواسطة وفود حكومية تزور محافظات المملكة، وتحاور الناس، مدّعياً أن الحكومة المنصرفة لم تفعل ذلك ولامها على ذلك، وقرّر أن فرصة القانون بالمرور أفضل فيما لو تجنب النخب النقابية، والاقتصادية، والثقافية، وذهب مباشرة إلى الناس في أماكنهم، وباعتبار أن تلك الفئة ذات مصالح لن تتنازل عنها.
يا لهول ما رأى، كانت زيارة المحافظات في السابق نوعاً من النزهة المحاطة بكرم الضيافة
وبذخها، انقلبت فجأة إلى غضب عارم وصراخ، ورفض استقبال الوفود الوزارية، وطردها. ولإصرار رئيس الحكومة على إتمامها، تكرّرت في كل المحافظات. .. غضب، فوضى لم تراع مكانة هؤلاء الممثلين الرسميين للدولة، وصلت إلى طردهم أو الانسحاب من المكان. جرأة عجيبة من شباب صغار، وشيوخ كبار، أرباب أسر وممثلي المجتمع المدني، اتحدوا كلهم ضد القادمين. وبدا عدم الكفاءة واضحا على الوزراء في وسائل النقاش والإقناع، وأثبتت هذه التجربة افتقارهم القدرة على المحاججة، ورباطة الجأش في التعامل مع الموقف.
بعد هذا كله، كان على الدولة الأردنية، بكل أجهزتها، أن تسأل: ما الذي يعتمل داخل بنيان المجتمع؟ هل هو رفض قانون فقط، أم بداية رفض حقيقي وعميق للدولة بمكوناتها الحالية؟ وبداية تكون إرهاصات بأن الحال لن يَصلُح إلا بتغيير هيكلي واسع، ابتداء بمن يُدعى أنه صاحب الولاية العامة. لكن الواضح، من لقاء تلفزيوني رُتب على عَجل، أن رئيس الحكومة يُفكر بعيداً عن هذا الاحتمال، وأنه منغمس في فكرة أنه المنقذ، وأن إمكاناته تجاوزت كل سابقيه، فلا يزال يطرح الأفكار نفسها، ويضيف إليها مشروع نهضة ليس له أركان.
وبذلك، لم تصل تلك الصرخات من نفوس محتقنة بالفقر، والقهر، ولم يُسمع لها رجعُ صدى، وتسير عربة الدولة إلى أين؟ الله أعلم.
وفي الداخل حكومة تذهب وأخرى تأتي، والقانون نفسه باق، وقد جاء لسدّ عجوزات في الميزانية نتجت، في جُلها، عن سوء إدارة للموارد الشحيحة أصلاً، في بلدٍ فشلت منظومته السياسية والاقتصادية في زيادة نسبة الاقتصاد الكلي، بحيث تتضاءل نسبة الدين والعجز إلى المجمل العام من الاقتصاد. ومرد ذلك غياب البيئة المشجعة للاستثمار، وربما غياب القوانين اللازمة لذلك، لكن الأهم هو ما يكثر الحديث عنه، بدليل أو بدونه، الفساد المعشّش داخل منظومة الدولة، وغياب الثقة في هذه الفئة والقطاعات التابعة لها.
ليس ما سبق هو الموضوع، بل ربما جزء من المسبّبات، ففي أثناء زيارات وزراء لمحافظات المملكة لترويج نسخة من قانون ضريبة الدخل، الخلافي، برزت ظاهرة غريبة، تمثلت بطرد الوزراء وعدم السماح لهم بالحديث، والتجاوز عليهم بألفاظ بدت قاسيةً وغير مألوفة.
هنا السؤال، في بلد اعتاد فيه الناس وضع مؤسسات الدولة، وبدون قمع، في موقع الإجلال،
ربما تجتمع الأسباب، فالفقر وغياب الفرص لمستقبل ذي قيمة، بغياب فرص العمل، ولّد لدى الأسر وأربابها شعوراً بالعجز والقنوط. ولعدم وجود مساحاتٍ لعكس هذا العجز، وكذلك الاختناق الاقتصادي في غياب إطار سياسي، يُعبر عن نفسه في تمثيل حزبي على أرض الواقع، يستطيع مراقبة أداء الجهات المنفذة للسياسات وأدواتها ونقدها أو تعديلها، وبسبب ذلك لم يحصل أي تفريغ حقيقي لمخزون الاحتقان المتراكم يوماً عن يوم.
اجتماعياً، هل يمكن لأي محاجج أن يدّعي أن غياب الاستقرار الاقتصادي لا يولد استقرارا أُسريا، وبالتالي مجتمعيا؟ ما الذي جعل مواطنا بسيطا، لا يمتلك من الأدوات سوى صوته، قادرا على الصراخ بهذه القوة، وهذا الثبات، فيقف بوجه دولةٍ وأدواتها بكل ما تمتلك من هيلمان؟
إنها قوة الرأي العام، والأدوات التي طوّرها بشكل سلمي للدفاع عن مصالحه بدون هوادة، فمنذ بدأ الربيع العربي، استطاع المجتمع المدني الأردني أن يستخدم أدواته بكل حرفية وسلمية، فطرح إصلاح النظام ولم يدعُ إلى إسقاطه، واستطاع أن يتحصل على مجموعة من المكاسب، طورت شكلياً منظومته السياسية. وحينما اكتشف عقم تلك التغيرات التي حصل عليها، وبسبب طرح قانون جبائي للضريبة، غايته تغطية نفقات الدولة ومنظوماتها، خرج بقوة، للدفاع عن نفسه، وهي من المرّات النادرة التي تحالفت فيها جميع قطاعات المجتمع، ومن مختلف الطبقات، ونجحت تحت شعار تغيير النهج في إسقاط حكومة خلال عشرة أيام
عبّرت تلك الحادثة عن تغيير عميق في حركيّة المجتمع، والطريقة التي ينظر فيها إلى مصالحه، وشكلت تغيراً لم يلحظه كثيرون في نظرة المجتمع إلى رجال الدولة الكبار، وموظفيها المرموقين، محتواه أن هؤلاء جزء من منظومة الفساد التي تسرقهُ حقوقه ومكتسباته المفترضة، وهم بالتالي ضمن منظومة أهدافه المقترحة. لكن تغيير الحكومة لم يحقق مبتغاه، إذ سرعان ما انقلب رئيسها على وعوده، وأعاد القانون سيّئ الذكر، وبتغييرات لم تمسّ جوهره، وقرّر أن يخوض تجربة ترويجه بواسطة وفود حكومية تزور محافظات المملكة، وتحاور الناس، مدّعياً أن الحكومة المنصرفة لم تفعل ذلك ولامها على ذلك، وقرّر أن فرصة القانون بالمرور أفضل فيما لو تجنب النخب النقابية، والاقتصادية، والثقافية، وذهب مباشرة إلى الناس في أماكنهم، وباعتبار أن تلك الفئة ذات مصالح لن تتنازل عنها.
يا لهول ما رأى، كانت زيارة المحافظات في السابق نوعاً من النزهة المحاطة بكرم الضيافة
بعد هذا كله، كان على الدولة الأردنية، بكل أجهزتها، أن تسأل: ما الذي يعتمل داخل بنيان المجتمع؟ هل هو رفض قانون فقط، أم بداية رفض حقيقي وعميق للدولة بمكوناتها الحالية؟ وبداية تكون إرهاصات بأن الحال لن يَصلُح إلا بتغيير هيكلي واسع، ابتداء بمن يُدعى أنه صاحب الولاية العامة. لكن الواضح، من لقاء تلفزيوني رُتب على عَجل، أن رئيس الحكومة يُفكر بعيداً عن هذا الاحتمال، وأنه منغمس في فكرة أنه المنقذ، وأن إمكاناته تجاوزت كل سابقيه، فلا يزال يطرح الأفكار نفسها، ويضيف إليها مشروع نهضة ليس له أركان.
وبذلك، لم تصل تلك الصرخات من نفوس محتقنة بالفقر، والقهر، ولم يُسمع لها رجعُ صدى، وتسير عربة الدولة إلى أين؟ الله أعلم.
دلالات
مقالات أخرى
28 يوليو 2020
25 يونيو 2020
17 ابريل 2020