الأزمة الاقتصادية اللبنانية بين مشروعين وثالثهما يتخبط
أقرّ مجلس الوزراء اللبناني خطة إصلاحية في 30/4/2020 لمعالجة الأزمة الاقتصادية التي تبدّت، بوضوح، بعد حراك 17 تشرين (أكتوبر)، وتفاقمت بتفلّت أسعار صرف العملة الوطنية في الشهرين الأخيرين. ويفترض بالخطة أنها لمواجهة التدهور الحاصل، وليست برنامجاً لإصلاح النظامين، الاقتصادي والمالي. وهي، كذلك، بما طُرِح فيها، وبما يفترضه موقع مُقرّها: مجلس وزراء لسلطة قائمة، لا مجلس قيادة لجبهة يمينية أو يسارية تبغي تغيير النظام باتجاه نيوليبرالي أو اتجاه اشتراكي. ويمكن اختصار خطة الحكومة لمواجهة الأزمة في:
1- تحميل اللبنانيين كافة، خاصة ذوي الدخل المحدود البالغ عددهم في القطاعين، العام والخاص، مليونا ونصف المليون موظف وعامل ومستخدم، بعض العبء، أو العبء الأكبر منها، وذلك بتحرير سعر صرف الليرة الذي اقترحت الخطة سعراً لها الدولار يساوي 3500 ل.ل، بما يعني خسارة ذوي الدخل المحدود 58% من أجورهم، إذا ما تجاوزنا الغلاء المتجاوز ذلك في السوق. وقد أنجز هذا التحميل، فعليا.
2- تحميل أصحاب الرساميل الكبيرة، خاصة أصحاب المصارف وذوي الودائع الكبيرة، بعض العبء الآخر، عبر اقتطاع بعض ما جنوا من فوائد في الهندسات المالية من جهة وبالفوائد المرتفعة من جهة أخرى، وهو اقتطاع مؤقت سيعوّض عنه بأسهم في صندوق استرداد الودائع الذي ستوضع قطاعات الدولة المنتجة وأملاكها تحب رعايته. وهو تحميل لم يباشر به.
3- تحميل من تلاعب بالعملة الوطنية، ومن استثمر أملاكها، بعض العبء، بملاحقة المتلاعبين واستعادة الأموال المنهوبة، وبوقف التعدّي على الأملاك العامة. وهذا ما بوشر به، من دون أن يصل إلى مداه، أفقياً وعامودياً.
4- الاقتراض من البنك الدولي ومن الدول المانحة، وهذا ما بوشر به، ودونه عقباتٌ أهمها
معالجة مزاريب الهدر الذي ثبتت أخيرا المكابرة في الاستمرار به (معمل سلعاتا مثلاً).
5- الاتجاه إلى هيكلة قطاع المصارف بتقليل عددها وضبطها.
6- الاتجاه إلى تحديث القوانين والأنظمة المفضي إلى توسيع القاعدة الضريبية، وزيادة الضرائب والإيرادات.
والخطة بما هي خطة لمجلس وزراء، لا لشركة أو حزب، محكومة بقوانين وأنظمة سائدة، وبقوانين ومراسيم وأنظمة ستستحدث، وإن تنفيذها مرهون بقوى ذات غلبة في مجلس النواب ترفض أو تعدل أو توافق على ما تتطلبه بنودها، وبقوى ذات غلبة في القضاء والإدارة والأجهزة المتعدّدة تماشي أو تعرقل ما يطلب منها. وقد انبرت قوى، باسمها أو عبر بعض رموزها، وبعض الفعاليات، لمناقشة الخطة، وهي لا تمثل كل الطيف السياسي والاقتصادي والنقابي في البلد، فبعضها لم تعلن موقفاً متكاملاً منها، واكتفى بعض آخر (حزب الله) بتأييدها، وهناك (تيار المستقبل) من اكتفى برفضها. ويمكن إدراج النقاش في العناوين الآتية:
1- بناء الخطة: أخذت جمعية المصارف والهيئات الاقتصادية ورئيس الحكومة الأسبق، فؤاد السنيورة، على الحكومة عدم التشاور قبل إقرار الخطة. وكذلك ناصر ياسين (معهد عصام فارس). كما قال السنيورة والحزب الشيوعي وزياد عبد الصمد بعدم الثقة في مطلق الخطة، كلٌّ لسبب مختلف عن الآخر، وقالت "طليعة لبنان العربي" إنها تقديم اعتماد لصندوق النقد الدولي.
2- مضمون الخطة: كانت جمعية المصارف الأكثر وضوحاً وولوجاً في مضمون الخطة؛ فالجمعية رفضت تحميل المصارف المسؤولية (انحيازها ضدها، معاقبة القطاع الخاص) مع موافقة على اللجوء إلى الاستدانة من البنك الدولي، وجارتها الهيئات الاقتصادية والخبير الاقتصادي مروان اسكندر (اقتناص الودائع وتحويلها إلى القطاع العام)، وكذلك الكاتب سركيس نعوم (إلغاء الأرباح غير سليم). واقترح الخبير المالي والاقتصادي، حبيب الزغبي، حلاً يندرج في مشروعها (أسهم للمصارف في المصرف المركزي، ووضع عقارات الدولة بتصرّفه، ليعرضا على الشركات الدولية وبنوكها لتوفير السيولة).
وقد عبرت جمعية المصارف في خطة مفصلة، في 20 مايو/أيار الماضي، عرضتها على لجنة المال والموازنة عن البديل الذي تقترحه ويتمثل في:
- إنشاء صندوق حكومي لإطفاء الدين، تسهم فيه الحكومة بأصول تملكها بقيمة 40 مليار دولار
(قطاع الاتصالات، أراضي الدولة، الأملاك البحرية…) مقابل كامل الأسهم. ويصدر الصندوق سندات دين طويلة الأجل، ومنتجة للفوائد بالقيمة نفسها، دولارياً، من أجل تسوية نهائية لدين الحكومة على مصرف لبنان (يحمل مصرف لبنان هذه السندات ويستفيد من فوائدها). ثم ينقل مصرف لبنان إلى الصندوق كل ما يتعلق بدين الدولة وفوائدها. وفي المقابل، تشطب الحكومة كل الدين المحمول من مصرف لبنان. ويعني هذا أنّ مصرف لبنان سيشطب ديونه على الدولة مقابل حصوله على فوائد تغذّيها إيرادات الاتصالات والأملاك البحرية وأراضي الدولة.
- إعادة هيكلة الديون بالعملات الأجنبية بخيارين: استبدال الديون بأخرى على أساس قانون أميركا، واستبدال الديون على أساس قانون لبناني.
- توحيد سعر الصرف يجب أن يأتي من خلال برنامج صندوق النقد الدولي.
- إعادة هيكلة القطاع المصرفي، بعد تسوية ديون الحكومة المحمولة من مصرف لبنان، بعناية فائقة وتقدمية، وبناءً على كل حالة بحالة.
ولم يتطرق السنيورة والوزير السابق جبران باسيل، بما يمثلان، إلى هذا المحور في الخطة، فاعتبر الأول الإصلاح مستعصيا، والحاجة لموقف موحد يراعي التوازن ويعيد الثقة، وذلك بالعودة إلى احترام التوازنات الداخلية التي اختلت، وكذلك إصلاح الخلل في التوازنات الخارجية، وذلك بإعادة لبنان إلى محيطه العربي وموقعه لدى الغرب، وهو ما تمليه مصلحة لبنان واللبنانيين. وهذا يعني العودة إلى احترام الدستور الذي ينص على أن النظام الاقتصادي حرّ يكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة.
أما باسيل الذي أشاد بإقرار الخطة وتشخيصها ومواجهتها المحظورات وحسم قرارها بالذهاب إلى صندوق النقد الدولي، فقد أبدى محظوراتٍ تواجهها (استعادة الأموال المنهوبة والموهوبة والمحوّلة. إعادة هيكلة الدين الخارجي والداخلي. كسر مسلسل الاستدانة مع كلفة مرهقة ومتعاظمة لخدمة الدين. وقف سياسة الفوائد العالية المكلفة على خزينة الدولة وعلى الاقتصاد. وقف سياسة ربط سعر الصرف وتثبيته بكلفة عالية). واعتبر التوزيع العادل للخسائر حسب الأولوية الآتية: الفاسدين السارقين، المستفيدين الجشعين، المصارف، أصحابها والمساهمين فيها، المصرف المركزي، الدولة بسياساتها ورجالاتها (وليس بأصولها وأملاكها).
ولامس الحزب الشيوعي وحزب طليعة لبنان العربي والتجمع الأكاديمي مضمون الخطة، برفض الحزب الشيوعي خيار التوجه نحو صندوق النقد الدولي، وباقتراح الأخذ بتجربة البرتغال، من دون تحديدها، والتركيز على استرداد الفوائد التي دفِعت على تسديد كلفة الدين العام. ورفض حزب الطليعة قص الودائع، والتركيز على وقف التهريب والسرقة والهدر. وحمّل التجمع السلطات السياسية وجمعية المصارف وحاكمية البنك المركزي مسؤولية الهدر والفساد واندلاع الأزمة.
ولم يلامس المناقشون الآخرون مضمون الخطة الحكومية، واكتفوا بالتعرّض لنتائجها، كما لم تبدِ القوى الفاعلة الأخرى رأياً بمضمونها؛ وإنْ يشتمّ من التصاريح اليومية رفض بعضهم (تيار المستقبل) واستمهال بعض آخر (القوات اللبنانية، الحزب الاشتراكي) وتأييد بعض ثالث (حزب الله) وصمت بعض رابع (حركة أمل).
3- مآل الخطة: غلب على المناقشين إبداء الرأي بما ستؤدي إليه الخطة؛ فبعضهم تخوف من
مخاطر الخطة على النظام الاقتصادي الحر، وضمنه القطاع الخاص وهيكلة القطاع المصرفي (الهيئات الاقتصادية، جبران باسيل، المحامي والأكاديمي بول مرقص، الإعلامي الكتائبي ألبير كوستنيان). وقال آخرون بلا دستوريتها (الهيئات الاقتصادية، بول مرقص). وهناك من تخوفوا من آثارها الاجتماعية (الحزب الشيوعي، حزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي، الخبير في قضايا الحوكمة أديب نعمة)، وعلى الضمان الاجتماعي (الأستاذ في الاقتصاد السياسي خليل جبارة) والانكماش الاقتصادي وزيادة الغلاء (التجمع الأكاديمي)، وبعض رابع تخوف من آثارها على القطاع العام (التجمع الأكاديمي).
ويظهر من استعراض ما ورد عند مناقشي خطة الحكومة اقتصار غالبيته على جوانب في الخطة، باستثناء جمعية المصارف التي قدّمت خطة بديلة. وبذا، تكون مواجهة الأزمة محصورة بين مشروعي الحكومة والمصارف، وتضاف إليهما محاولات تلمّس مشروع ثالث، بطرح كل من الحزب الشيوعي وحزب الطليعة والتجمع الأكاديمي.
ويفترض المشروع، أي مشروع، قوى حاملة له، فمن هي قوى كل من المشروعين ومخاض المشروع الثالث؟ مشروع الحكومة هو مشروع السلطة التنفيذية الأعلى والأقوى في البلد، وهي بذلك تملك قوة القانون وقوة الأجهزة الفاعلة والفعلية، فضلا عن المشروعية العربية والدولية. إلا أنّ مكونات داعمي الحكومة محكومة بالتباين في الموقف من الخطة/ المشروع، فالتيار الوطني الحر بارك الخطة، إلا أنه تخوف من ولوجها محظورات عدّدها، ومن مسّها بالنظام الاقتصادي الحر. وكانت أولوياته فيها محاسبة الفاسدين التي تصوّب على أحد مكامن الأزمة، إلا أنها تلج في حقل المساومات. ولم تبد حركة أمل رأياً في الخطة، وإنْ حملت همّ الدفاع عن المودعين. وحزب الله لم يبدِ رأياً في الخطة، وإنْ حملت خطابات أمينه العام، حسن نصرالله، مناشدات للمستفيدين من الفوائد، المساهمة الطوعية في الإنقاذ، وحمل شعار مكافحة الفساد بعداً يصب في خطة الحكومة، إلا أنه محكومٌ بحساباتٍ إقليمية تدفعه إلى الوقوف في ربع الطريق.
أما من تبقى في الحكومة، و"المستقلون" إلى حد ما عن قواها، وفي مقدمتهم رئيس الحكومة نفسه، حسان دياب، الذين يحملون الخطة، وتتعزز على نجاحها شرعيتهم ومستقبلهم السياسي، فهم محكومون بالقوى التي أعطتهم الثقة، ويمكن لبعضها سحبها منهم، بالاستقالة، وهم يملكون، إذا أرادوا، سلاح الموقف.
ومشروع جمعية المصارف هو مشروع القوة المالية الأفعل، بما تملك من سيولة مالية قادرة على المضاربة على الليرة، وبالتالي على لقمة عيش كل لبناني، وهي قوة ذات امتداد دولي، بما تملك من علاقاتٍ مع الشركات والبنوك والدول، فضلا عن علاقاتها السياسية مع قوى لبنانية فاعلة غير ممثلة في الحكومة، واكتفت في موقفها من الخطة بامتداح التوجه نحو البنك الدولي فقط.
وهكذا تبدو الأزمة الاقتصادية بين مشروعين وشبه مشروع. أما المشروعان فيتوافقان على الاقتراض من البنك الدولي، وعلى التلاعب بأملاك الدولة المنتجة، بصيغتين مختلفتين، وعلى تحميل الناس عبء الأزمة، ويختلفان على محاولة مشروع الحكومة تحميل المصارف والمصرف المركزي و"ناهبي" المال العام بعض العبء، ورفض مشروع المصارف ذلك.
والمشروعان معلقان في المُخْتلف عليه بينهما، وهما مشروعا القوى الفاعلة في البلد التي تتعارك على الخيار الإقليمي والدولي، وعلى توزيع الحصص والمنافع، وتتوافقان على مبدأ المحاصصة، وعلى التهرّب من تحمل وزر الأزمة.
ومع إدراك مفاعيل الاختلاف في تقدير الخسائر بين الخطتين، وإدراك ضعف القوى المؤيدة
لمشروع الحكومة؛ إنْ بتماسك قوى المشروع المقابل، أو بتفكك قواه الداعمة واستعدادها للمساومة، فإنّ مشروعها أكثر جدوى بتحميل كل فئات المجتمع عبء الأزمة، في حين اقتصر مشروع المصارف على تحميل الناس وحدهم العبء بخفض قيمة العملة الوطنية، وبمصادرة أملاك الدولة المدرّة للأرباح.
والسؤال: أليس من مشروع ثالث يمثل المتضرّرين من الأزمة الذين حُمِّلوا وزرها بتعديل سعر صرف الليرة وبحجز الودائع، وهم كل الناس من مختلف المناطق والطوائف، وقوام البالغين منهم مليون ونصف، وتتمثل غالبيتهم في نقابات وروابط وجمعيات وأحزاب؟ متابعة مواقف هذه الهيئات منذ 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 تشي بأنينها من الوضع القائم والأزمة الراهنة، وقد عبرت عن ذلك بشعار "كلّن يعني كلن". ولم يدفع تفاقم الأزمة المالية وانعكاساتها الاقتصادية إلى تجاوز هذا الشعار، وقد قدم بعضها في ردّه على مشروع الحكومة شبه مشروع، ويدور بين رفض الغلاء ومحاسبة الفاسدين والتصدي لحكم المصرف ثم المواجهة وتجديد "الثورة". إلا أنّ هذه القوى تعاني من تبايناتٍ تحكم علاقاتها وفهمها للحظة الراهنة وأساليب مواجهتها، ومنها:
1- التباين في توجهاتها بين حدّي تغيير النظام وتحقيق مطالب جزئية، فبعض هذه القوى ذات توجه معلن بالمطالبة بنظام مغاير، وبعضها الآخر ذو توجه كامن، بحدود، يبغي مواجهة هيمنة حزب الله والتيار الوطني الحر، وبعضها الثالث ذو توجه قطاعي مطلبي، وبعضها الرابع محكومٌ بالقوى المنتجة لها، وهي القوى الحاكمة، ومهجوس بمواجهة خصم راعيه، وبعضها الخامس مسكون بالشعارت العامة في حدها الأقصى.
2- التباين في تقدير قوتها بين وهْم القدرة على تغيير النظام ووهم العجز عن الفعل في اللحظة الثورية، فبعض هذه القوى تتوهم إمكان التغيير السريع، فتطالب بالانتخابات النيابية، بالقانون الحالي أو بغيره. وبعض آخر يدرك حجم قوى التغيير الضعيف الذي لا يتيح التغيير، ويغالي في الولوج في خطاب التغيير الشامل. وبعض ثالث يتوهم شمول الأزمة وعمومية الامتعاض قوة فاعلة فيستعجل التغيير السريع. وبعض رابع همه في الأزمة ووقعها عليه.
3- التباين في فهم مهمات المرحلة بين حدّي: توهم بأنّها مهمة إنجاز الثورة الشاملة، مع اختلاف على طبيعتها، ومهمة تحقيق تبدل في ميزان القوى السائد.
4- التباين في فهم أساليب العمل ووسائله بين حدّي الانتفاضة العفوية والعمل المنظم.
ويمكن القول إنّ ما ورد في ردود بعض القوى غير الحاكمة (استرداد الفوائد، وقف التهريب والنهب، تحميل المصارف والصرف المركزي المسؤولية) وشعارات من لم يردّ المتوافقة مع هذه، يدفع إلى ترجيح خيارها مع مشروع الحكومة، وهو خيار محفوف بعدم الثقة في داعمي الحكومة وبعدم الثقة في قدرتها على الصمود، إن بالتهديدات أو بالتسويات، إلا أنّه خيارٌ يمكن أنْ يدفع باتجاه الاستمرار فيه. وشرطه أن تكون حاضرة كقوة أو تحالف أو تنسيق قوى ملتقية ببرنامج حول هدف مواجهة الأزمة، ولا يضيرها، من موقعها المتميز، الاستفادة من تناقضات القوى السائدة والدفع باتجاه تحقيق الهدف.
2- تحميل أصحاب الرساميل الكبيرة، خاصة أصحاب المصارف وذوي الودائع الكبيرة، بعض العبء الآخر، عبر اقتطاع بعض ما جنوا من فوائد في الهندسات المالية من جهة وبالفوائد المرتفعة من جهة أخرى، وهو اقتطاع مؤقت سيعوّض عنه بأسهم في صندوق استرداد الودائع الذي ستوضع قطاعات الدولة المنتجة وأملاكها تحب رعايته. وهو تحميل لم يباشر به.
3- تحميل من تلاعب بالعملة الوطنية، ومن استثمر أملاكها، بعض العبء، بملاحقة المتلاعبين واستعادة الأموال المنهوبة، وبوقف التعدّي على الأملاك العامة. وهذا ما بوشر به، من دون أن يصل إلى مداه، أفقياً وعامودياً.
4- الاقتراض من البنك الدولي ومن الدول المانحة، وهذا ما بوشر به، ودونه عقباتٌ أهمها
5- الاتجاه إلى هيكلة قطاع المصارف بتقليل عددها وضبطها.
6- الاتجاه إلى تحديث القوانين والأنظمة المفضي إلى توسيع القاعدة الضريبية، وزيادة الضرائب والإيرادات.
والخطة بما هي خطة لمجلس وزراء، لا لشركة أو حزب، محكومة بقوانين وأنظمة سائدة، وبقوانين ومراسيم وأنظمة ستستحدث، وإن تنفيذها مرهون بقوى ذات غلبة في مجلس النواب ترفض أو تعدل أو توافق على ما تتطلبه بنودها، وبقوى ذات غلبة في القضاء والإدارة والأجهزة المتعدّدة تماشي أو تعرقل ما يطلب منها. وقد انبرت قوى، باسمها أو عبر بعض رموزها، وبعض الفعاليات، لمناقشة الخطة، وهي لا تمثل كل الطيف السياسي والاقتصادي والنقابي في البلد، فبعضها لم تعلن موقفاً متكاملاً منها، واكتفى بعض آخر (حزب الله) بتأييدها، وهناك (تيار المستقبل) من اكتفى برفضها. ويمكن إدراج النقاش في العناوين الآتية:
1- بناء الخطة: أخذت جمعية المصارف والهيئات الاقتصادية ورئيس الحكومة الأسبق، فؤاد السنيورة، على الحكومة عدم التشاور قبل إقرار الخطة. وكذلك ناصر ياسين (معهد عصام فارس). كما قال السنيورة والحزب الشيوعي وزياد عبد الصمد بعدم الثقة في مطلق الخطة، كلٌّ لسبب مختلف عن الآخر، وقالت "طليعة لبنان العربي" إنها تقديم اعتماد لصندوق النقد الدولي.
2- مضمون الخطة: كانت جمعية المصارف الأكثر وضوحاً وولوجاً في مضمون الخطة؛ فالجمعية رفضت تحميل المصارف المسؤولية (انحيازها ضدها، معاقبة القطاع الخاص) مع موافقة على اللجوء إلى الاستدانة من البنك الدولي، وجارتها الهيئات الاقتصادية والخبير الاقتصادي مروان اسكندر (اقتناص الودائع وتحويلها إلى القطاع العام)، وكذلك الكاتب سركيس نعوم (إلغاء الأرباح غير سليم). واقترح الخبير المالي والاقتصادي، حبيب الزغبي، حلاً يندرج في مشروعها (أسهم للمصارف في المصرف المركزي، ووضع عقارات الدولة بتصرّفه، ليعرضا على الشركات الدولية وبنوكها لتوفير السيولة).
وقد عبرت جمعية المصارف في خطة مفصلة، في 20 مايو/أيار الماضي، عرضتها على لجنة المال والموازنة عن البديل الذي تقترحه ويتمثل في:
- إنشاء صندوق حكومي لإطفاء الدين، تسهم فيه الحكومة بأصول تملكها بقيمة 40 مليار دولار
- إعادة هيكلة الديون بالعملات الأجنبية بخيارين: استبدال الديون بأخرى على أساس قانون أميركا، واستبدال الديون على أساس قانون لبناني.
- توحيد سعر الصرف يجب أن يأتي من خلال برنامج صندوق النقد الدولي.
- إعادة هيكلة القطاع المصرفي، بعد تسوية ديون الحكومة المحمولة من مصرف لبنان، بعناية فائقة وتقدمية، وبناءً على كل حالة بحالة.
ولم يتطرق السنيورة والوزير السابق جبران باسيل، بما يمثلان، إلى هذا المحور في الخطة، فاعتبر الأول الإصلاح مستعصيا، والحاجة لموقف موحد يراعي التوازن ويعيد الثقة، وذلك بالعودة إلى احترام التوازنات الداخلية التي اختلت، وكذلك إصلاح الخلل في التوازنات الخارجية، وذلك بإعادة لبنان إلى محيطه العربي وموقعه لدى الغرب، وهو ما تمليه مصلحة لبنان واللبنانيين. وهذا يعني العودة إلى احترام الدستور الذي ينص على أن النظام الاقتصادي حرّ يكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة.
أما باسيل الذي أشاد بإقرار الخطة وتشخيصها ومواجهتها المحظورات وحسم قرارها بالذهاب إلى صندوق النقد الدولي، فقد أبدى محظوراتٍ تواجهها (استعادة الأموال المنهوبة والموهوبة والمحوّلة. إعادة هيكلة الدين الخارجي والداخلي. كسر مسلسل الاستدانة مع كلفة مرهقة ومتعاظمة لخدمة الدين. وقف سياسة الفوائد العالية المكلفة على خزينة الدولة وعلى الاقتصاد. وقف سياسة ربط سعر الصرف وتثبيته بكلفة عالية). واعتبر التوزيع العادل للخسائر حسب الأولوية الآتية: الفاسدين السارقين، المستفيدين الجشعين، المصارف، أصحابها والمساهمين فيها، المصرف المركزي، الدولة بسياساتها ورجالاتها (وليس بأصولها وأملاكها).
ولامس الحزب الشيوعي وحزب طليعة لبنان العربي والتجمع الأكاديمي مضمون الخطة، برفض الحزب الشيوعي خيار التوجه نحو صندوق النقد الدولي، وباقتراح الأخذ بتجربة البرتغال، من دون تحديدها، والتركيز على استرداد الفوائد التي دفِعت على تسديد كلفة الدين العام. ورفض حزب الطليعة قص الودائع، والتركيز على وقف التهريب والسرقة والهدر. وحمّل التجمع السلطات السياسية وجمعية المصارف وحاكمية البنك المركزي مسؤولية الهدر والفساد واندلاع الأزمة.
ولم يلامس المناقشون الآخرون مضمون الخطة الحكومية، واكتفوا بالتعرّض لنتائجها، كما لم تبدِ القوى الفاعلة الأخرى رأياً بمضمونها؛ وإنْ يشتمّ من التصاريح اليومية رفض بعضهم (تيار المستقبل) واستمهال بعض آخر (القوات اللبنانية، الحزب الاشتراكي) وتأييد بعض ثالث (حزب الله) وصمت بعض رابع (حركة أمل).
3- مآل الخطة: غلب على المناقشين إبداء الرأي بما ستؤدي إليه الخطة؛ فبعضهم تخوف من
ويظهر من استعراض ما ورد عند مناقشي خطة الحكومة اقتصار غالبيته على جوانب في الخطة، باستثناء جمعية المصارف التي قدّمت خطة بديلة. وبذا، تكون مواجهة الأزمة محصورة بين مشروعي الحكومة والمصارف، وتضاف إليهما محاولات تلمّس مشروع ثالث، بطرح كل من الحزب الشيوعي وحزب الطليعة والتجمع الأكاديمي.
ويفترض المشروع، أي مشروع، قوى حاملة له، فمن هي قوى كل من المشروعين ومخاض المشروع الثالث؟ مشروع الحكومة هو مشروع السلطة التنفيذية الأعلى والأقوى في البلد، وهي بذلك تملك قوة القانون وقوة الأجهزة الفاعلة والفعلية، فضلا عن المشروعية العربية والدولية. إلا أنّ مكونات داعمي الحكومة محكومة بالتباين في الموقف من الخطة/ المشروع، فالتيار الوطني الحر بارك الخطة، إلا أنه تخوف من ولوجها محظورات عدّدها، ومن مسّها بالنظام الاقتصادي الحر. وكانت أولوياته فيها محاسبة الفاسدين التي تصوّب على أحد مكامن الأزمة، إلا أنها تلج في حقل المساومات. ولم تبد حركة أمل رأياً في الخطة، وإنْ حملت همّ الدفاع عن المودعين. وحزب الله لم يبدِ رأياً في الخطة، وإنْ حملت خطابات أمينه العام، حسن نصرالله، مناشدات للمستفيدين من الفوائد، المساهمة الطوعية في الإنقاذ، وحمل شعار مكافحة الفساد بعداً يصب في خطة الحكومة، إلا أنه محكومٌ بحساباتٍ إقليمية تدفعه إلى الوقوف في ربع الطريق.
أما من تبقى في الحكومة، و"المستقلون" إلى حد ما عن قواها، وفي مقدمتهم رئيس الحكومة نفسه، حسان دياب، الذين يحملون الخطة، وتتعزز على نجاحها شرعيتهم ومستقبلهم السياسي، فهم محكومون بالقوى التي أعطتهم الثقة، ويمكن لبعضها سحبها منهم، بالاستقالة، وهم يملكون، إذا أرادوا، سلاح الموقف.
ومشروع جمعية المصارف هو مشروع القوة المالية الأفعل، بما تملك من سيولة مالية قادرة على المضاربة على الليرة، وبالتالي على لقمة عيش كل لبناني، وهي قوة ذات امتداد دولي، بما تملك من علاقاتٍ مع الشركات والبنوك والدول، فضلا عن علاقاتها السياسية مع قوى لبنانية فاعلة غير ممثلة في الحكومة، واكتفت في موقفها من الخطة بامتداح التوجه نحو البنك الدولي فقط.
وهكذا تبدو الأزمة الاقتصادية بين مشروعين وشبه مشروع. أما المشروعان فيتوافقان على الاقتراض من البنك الدولي، وعلى التلاعب بأملاك الدولة المنتجة، بصيغتين مختلفتين، وعلى تحميل الناس عبء الأزمة، ويختلفان على محاولة مشروع الحكومة تحميل المصارف والمصرف المركزي و"ناهبي" المال العام بعض العبء، ورفض مشروع المصارف ذلك.
والمشروعان معلقان في المُخْتلف عليه بينهما، وهما مشروعا القوى الفاعلة في البلد التي تتعارك على الخيار الإقليمي والدولي، وعلى توزيع الحصص والمنافع، وتتوافقان على مبدأ المحاصصة، وعلى التهرّب من تحمل وزر الأزمة.
ومع إدراك مفاعيل الاختلاف في تقدير الخسائر بين الخطتين، وإدراك ضعف القوى المؤيدة
والسؤال: أليس من مشروع ثالث يمثل المتضرّرين من الأزمة الذين حُمِّلوا وزرها بتعديل سعر صرف الليرة وبحجز الودائع، وهم كل الناس من مختلف المناطق والطوائف، وقوام البالغين منهم مليون ونصف، وتتمثل غالبيتهم في نقابات وروابط وجمعيات وأحزاب؟ متابعة مواقف هذه الهيئات منذ 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 تشي بأنينها من الوضع القائم والأزمة الراهنة، وقد عبرت عن ذلك بشعار "كلّن يعني كلن". ولم يدفع تفاقم الأزمة المالية وانعكاساتها الاقتصادية إلى تجاوز هذا الشعار، وقد قدم بعضها في ردّه على مشروع الحكومة شبه مشروع، ويدور بين رفض الغلاء ومحاسبة الفاسدين والتصدي لحكم المصرف ثم المواجهة وتجديد "الثورة". إلا أنّ هذه القوى تعاني من تبايناتٍ تحكم علاقاتها وفهمها للحظة الراهنة وأساليب مواجهتها، ومنها:
1- التباين في توجهاتها بين حدّي تغيير النظام وتحقيق مطالب جزئية، فبعض هذه القوى ذات توجه معلن بالمطالبة بنظام مغاير، وبعضها الآخر ذو توجه كامن، بحدود، يبغي مواجهة هيمنة حزب الله والتيار الوطني الحر، وبعضها الثالث ذو توجه قطاعي مطلبي، وبعضها الرابع محكومٌ بالقوى المنتجة لها، وهي القوى الحاكمة، ومهجوس بمواجهة خصم راعيه، وبعضها الخامس مسكون بالشعارت العامة في حدها الأقصى.
2- التباين في تقدير قوتها بين وهْم القدرة على تغيير النظام ووهم العجز عن الفعل في اللحظة الثورية، فبعض هذه القوى تتوهم إمكان التغيير السريع، فتطالب بالانتخابات النيابية، بالقانون الحالي أو بغيره. وبعض آخر يدرك حجم قوى التغيير الضعيف الذي لا يتيح التغيير، ويغالي في الولوج في خطاب التغيير الشامل. وبعض ثالث يتوهم شمول الأزمة وعمومية الامتعاض قوة فاعلة فيستعجل التغيير السريع. وبعض رابع همه في الأزمة ووقعها عليه.
3- التباين في فهم مهمات المرحلة بين حدّي: توهم بأنّها مهمة إنجاز الثورة الشاملة، مع اختلاف على طبيعتها، ومهمة تحقيق تبدل في ميزان القوى السائد.
4- التباين في فهم أساليب العمل ووسائله بين حدّي الانتفاضة العفوية والعمل المنظم.
ويمكن القول إنّ ما ورد في ردود بعض القوى غير الحاكمة (استرداد الفوائد، وقف التهريب والنهب، تحميل المصارف والصرف المركزي المسؤولية) وشعارات من لم يردّ المتوافقة مع هذه، يدفع إلى ترجيح خيارها مع مشروع الحكومة، وهو خيار محفوف بعدم الثقة في داعمي الحكومة وبعدم الثقة في قدرتها على الصمود، إن بالتهديدات أو بالتسويات، إلا أنّه خيارٌ يمكن أنْ يدفع باتجاه الاستمرار فيه. وشرطه أن تكون حاضرة كقوة أو تحالف أو تنسيق قوى ملتقية ببرنامج حول هدف مواجهة الأزمة، ولا يضيرها، من موقعها المتميز، الاستفادة من تناقضات القوى السائدة والدفع باتجاه تحقيق الهدف.