الأشجار واغتيال مرزوق
أبطال رواياته مهجوسون بأسئلتهم، يلقونها فجأة، مثل كرة نار في وجه القراء. تشعر من فرط واقعيتهم أنهم موجودون بيننا، يأكلون الطعام ويسيرون في الأسواق.
شخوصه تخرج من الورق، لكي تحيا في الواقع. والجو العام البوليسي المخيم على أجواء نصوصه ينمّي حاسة الارتياب عند القارئ، وبالأخص القارئ العربي، المستهدف الرئيسي من نصوص عبد الرحمن منيف.
المرحلة الزمنية التي عاش فيها الرجل، وعتو أمواجها وتياراتها وعنفها، كان يسمح بهذا النوع من الكتابة، المبتعدة عن أدوات التحليل السائد والخطابات السياسية المباشرة.
ولذلك، أحكم منيف بناء عالم روائي معتم، فيه البشر يشوى لحمه، وتمرح فيه الأجهزة السرية، وتفتح السجون أبوابها لتلتهم خيرة الشباب، في حين تنشط رياضة التقارير المفبركة، ولا يطال العقاب أيا من هؤلاء الممتهنين مهن القتل الناعم والوحشي، على حد سواء.
هذا هو العالم الذي رآه منيف، من خلف نظارته السميكة، وسواء أكان محاكياً للواقع، أم مضيفا له الكثير من بهارات مستلزمات الطبخة الروائية الناجحة، فإنه كان على وعي، بكل تأكيد، أن الواقع، في أحيان كثيرة، أغرب من الخيال.
ومن هنا، جاءت أعماله "سباق مسافات" طويلة، كتبها في أجزاء، شأن روائيي القرن التاسع عشر في أوروبا، وربما، في هذا الصدد، كان منيف يعي أن كثافة الأحداث تتطلب مساحة روائية أكبر، وحشداً مشهدياً يتناسب والتحولات التي يجتازها العربي المحبط، في واقع جهنمي، لا يعرف إلا الاستبداد الأعمى.
شخوص منيف الروائية، في غالبيتها، شخوص ملتاعة، تعرضت للخيانة، بمفهومها الشامل، ولا تجد الخلاص، لا في المثل، ولا في جحيم الواقع. لذلك، تظل معلقة في وعيها الشقي، سلواها الوحيدة، حنينها إلى ماض جميل، يشبه اللحظة التي سبقت خروج آدم وحواء من الجنة. لكن، بعد النزول للعالم الأرضي، دارت اللعبة على أسوأ ما يكون.
وعدا "ملحياته"، تكتسي رواية "الأشجار واغتيال مرزوق" مركزية مهمة في المشروع الروائي لمنيف، لأن خطاطتها محكمة البناء، ودشنت لما سيأتي من أعماله. وبهذا العمل، شكل هزة عنيفة في كتابة الرواية العربية، وضعته حالة مستقلة قائمة الذات.
فمهندس البترول هذا، القادم إلى الكتابة، كان حالة غير مسبوقة، حيث كان المشتغلون بالأدب، في الغالب، يأتون إليه من كليات الآداب، أو من الفضاءات المجاورة.
ثم إنه، لأول مرة، يطلع كاتب بعد نجيب محفوظ، له هذه القدرة المدهشة على الانتشار، وهذا جوهر المفارقة لكاتب نخبوي، يكتب أدباً "جماهيرياً"، ويجمع عليه اليساريون والإسلاميون، وكأنه جاء ليتكلم باسمهم، وهم في دورات العنف المتناوب في أزمنة السواد العربي تلك.
في هذا السياق، جاءت "الأشجار واغتيال مرزوق"، وصارت عنوانا لمرحلة، لا مساحة فيها لحقوق الإنسان، ولا فرجة ضوء للتعددية والتعبير عن الرأي المخالف، حتى في ظل الجماعة السياسية الواحدة.
ولربما يحتاج العرب، اليوم، إلى نقد ذاتي شامل، بسلطهم السياسية، ونخبهم المضادة، فلقد ارتكبت، وترتكب، الكثير من الفظاعات بقسوة لا تحتمل.
والآن، وفي ظل أوطان تتفتت، وبشر بهيم في جغرافيات العالم بحثاً عن الأمان، أي رواية سيكتبها العربي، ومن سيدين من، طالما أن أيادي كثيرة غمست في الدم البريء.
يقول منيف، على لسان بطل روايته منصور "الحزن في قلبي. في عيني. الحزن مثل طبقة الزيت الطافية فوق دمي. تغلف كل شيء. تطوقه".
انتبهوا، طبقة الزيت تكبر اليوم وتتسع.