قبل أيّام أطلّ علينا المطرب الشعبي، شعبان عبد الرحيم، بأغنية عن "الحشد الشعبي" إحدى المليشيات التابعة للقوّات النظامية العراقية. جاءت هذه الأغنية بعد سنوات كان يكتفي فيها في كل مرّة، بالخروج علينا بأغنية ضدّ تنظيم سياسي أو داعيًا لتأييد سياسي لصالح شخص ضدّ آخر، بطريقة أقرب للإفلاس الفني، يستخدم "شعبولا" الشعارات السياسية حتى يجد له مكانًا في سوق المغني الشعبي، والذي أصبح كسمكة قرش تأكل بنهم كل من لا يجد مكانًا يتسق مع ذائقة جمهوره.
على عكس "شعبولا"، يعود المطرب الشعبي، عبد الباسط حمودة، في كل مرّة بأغنية تكتسح السوق مبتعدًا عن السياسة وشعاراتها، لا مباليًا بدوره داخل اللعبة السياسية، مكتفيًا بلحنٍ جديد وكلمات تتغنّى بالمعاني الإنسانية للطبقة التي يستهدفها. فيعود إلينا بعد توقّف طويل بأغنية ذاع صيتها في ذلك الوقت " أنا مش عارفني، أنا تهت مني"، ثم يعود بشكل أقوى في "ديوتو" يجمعه بالممثلة دنيا سمير غانم، فيقول: " دقيت على باب الحياة لما انجرح جَفني"، حيث يبدو أن حمودة مغنيًا ذاتيًا، يشعر بالمعنى الفردي للفن، حتى لو لم يكن يدركه بالكامل، وهذا ما يجعله صادقًا ورومانسيًا ومستمرًا.
السح الدح إمبو
قد يضعنا هذا المدخل أمام قصّة المغني الشعبي الحديث بالمفهوم الذي خطّه أحمد عدوية، ومرحلة عدوية تكاد تكون منفصلة عن الأغاني التي اعتبرت شعبية في السابق كالمغنى الفلكلوري أو الموشحات الدينية، وكأنه كان يخط مفهومًا حداثيًا للفن نابعاً من بيئته الأصلية.
ظهر المطرب عدوية في فترة كانت الدولة المصرية فيها تترنّح بعد حرب 67، هذه الحرب التي هزّت ثقّة الشارع المصري في المؤسّسات الرسمية، حتى في منتجها الذي أصبح معبرًا عن منظومة ثقافية تخصّ الطبقة المتوسّطة والرفيعة، وكان لا بد من فن يعبّر عن الإنسان المهزوم بعد الحرب، ويعبّر عن أشيائه الحقيقية، لا عن الصوّر الافتراضية والأحلام التي يبثها التلفزيون.
لم يكن أمام فناني هذا الوقت سوى تقبّل هذا الطوفان الذي يكتسح جمهور الحارات والمناطق الشعبية، فالتعاون أحسن من الصراع، حيث تم استيعاب عدوية داخل مؤسّسات الفن المعترف بها، شركات الإنتاج والسينما وأكبر كتّاب وملحني هذا العصر، فُتِح بعدها الباب لجيل كامل من المطربين الشعبيين؛ مثل حسن الأسمر وعبد الباسط حمودة وحكيم، وشعبان عبد الرحيم بنسخته الباهتة.
مفيش صاحب بيتصاحب
إنها الأغنية الشعبية فرضت نفسها الآن، يكفي أن تتجوّل في حي مثل المطرية أو إمبابة، لكي تجد إعلانات عن مهرجان للغناء ينظّم خلال الأيّام القادمة، تحييه أسماء محليّة معروفة، بل ولن تفلت وأنت تركب "ميكروباصاً" في القاهرة من سماع كل جديد في سوق الطرب الشعبي. فسائقو "الميكروباصات" والأتوبيسات الخاصّة الصغيرة، هم الجمهور الأساسي لهذه النوعية من الأغاني، بل وناقلوها من مكانٍ لآخر، فتبادل شرائط الكاسيت وفلاشات الكمبيوتر من عربة لأخرى، هو بديل يُغْني عن شركات التسويق والتوزيع، هذا الدور كان الأهم في انتشار أغاني المهرجانات، التي ظهرت فجأة عندما لمعت أسماء مثل أوكا وأورتيجا في عام 2009. والتي انهالت عليها موجات من النقد العنيف والتهم المكرّرة، التي اتهم بها عدوية نفسه، مثل الابتذال والإسفاف وغيره، دون محاولة جادة لفهم ما يحدث أو الاستفادة منهم.
لو أن هناك تصنيفًا أضع فيه المهرجانات، سأصنفها بالموسيقى الأصيلة للقاهرة الجديدة. فالقاهرة التي تحوّلت إلى تخوم سكنية متضخّمة، أزاحت شكلها القديم الرائق، لصالح عشوائيات البقاء والعيش، الآن هناك أكثر من ثلث الشعب المصري ينتمي إلى هذا المكان الجديد بمنظومة عيش متدنية، وتمارس عليهم الدولة سلطة القهر، وسياسات الإفقار، بينما تنبذهم وتحتقرهم الطبقة الوسطى التي تعتبر نفسها وسيطًا بين الدولة ومؤسّساتها، والمتحكّم الأساسي في منظومة الثقافة، والمنتج الأساسي لشكل السلطة المجتمعية.
في رأيي تمتد موسيقى المهرجانات إلى مرحلة جديدة في الموسيقى، تقترب بشكلها من موسيقى الهاوس الأميركية، التي تعتمد على رتم متكرّر، وتقترب بشكل مغنيها من مغني الميتال الأميركاني، من حيث السن الصغير وكسرهم القواعد المتعارف عليها في الغناء. الفارق أن فناني الميتال لديهم وعي كاف بالتجربة يجعلهم يطوّرون موسيقاهم، مستخدمين ألحانًا متجددة وكلمات تلعن المجتمع والسلطة بشكل يتصل مع تجربة الإنسان ككل، لكن مغنيي المهرجانات يضعهم وعيهم المحدود في منطقة التكرار التي تسحب من أسهمهم لصالح مطربين شعبيين آخرين معترف بهم من المؤسّسات الرسمية، وقادرين على التجديد والتسويق الجيّد مثل حكيم .
ورغم أن هناك محاولات لاستيعاب بعض نجوم المهرجانات عن طريق توظيفهم داخل السينما، أو استضافتهم في برامج "التوك شو"، في محاولة أقرب للهجوم عليهم وتفتيتهم، لكن سرعة تقلب السوق وعشوائيته تقف حائلًا أمام القضاء عليهم، فالسوق يميت أبطاله ويخلق أبطالًا جددًا كل يوم. هذه هي نقطة قوّته وضعفه في آنٍ واحد.
هكذا بلحنٍ مكرّر ورقصات مجنونة، وكلمات ليست بالضرورة ذات معنى لكنها تحافظ على شكل البهجة السريعة، تصدح المهرجانات بالضجيج المعدني الصادر من أجهزة الصوت الحديثة، بشكل أصدق وأحق في التعبير عن هذا الجمهور الجديد، والتعبير عن شكل الحياة الحالي، الصاخب والعشوائي، ويعتمد على شبكة العلاقات الاجتماعية بديلًا عن المؤسّسات الفنية التي ترفضهم، وكنوع من أنواع إثبات الذات والرغبة في الوجود وتخطّي التغريب الذي خلقته سطوة المدينة الجديدة، خلقت الموسيقى الجديدة سلطتها الخاصّة في مواجهة سلطة قديمة وراسخة، كل ما تفعله هو الاحتقار والتهميش، هذا التهميش الذي يأكل جزءًا من ذاتك، يعريها، ثم لا يجعلك قادرًا على استعادة روحك المفقودة مرّة أخرى.