في الجلسة الافتتاحية، أشارت أبو الفضل إلى أن تعريف "العمارة المستدامة" أو "العمارة الذكية" يتطوّر بصورة مستمرة ليواكب المتغيّرات والتحديات البيئية والمجتمعية الجديدة، وأضافت:"بشكل عام يمكننا تعريف "العمارة المستدامة" بوصفها عملية تصميم المباني بأسلوب يحترم البيئة وينسجم مع الطبيعة مع الأخذ في الاعتبار الاستخدام الأمثل للموارد وتقليل استهلاك الطاقة، بهدف محاولة إصلاح الخلل البيئي نتيجة التلوث والاحتباس الحراري".
مسؤولية الجميع
من جانبه يقول المهندس الفرنسي جون ريهو أنه رغم وجود منظومة قوانين في فرنسا تحاول تشجيع "العمارة المستدامة" إلا أن هذه المهمة تحتاج لمجهود كبير من كافة الأطراف سواء الحكومات أو المعماريين أو المواطنين، موضحًا أن هناك ثلاثة مكونات رئيسية تعتمد عليها "العمارة المستدامة" وهي: الثقافة المحلية، والموارد المتاحة، والتكلفة الاقتصادية.
يرى ريهو أن "هناك طفرة معمارية في المدن الكبرى حول العالم تستخدم حجماً هائلاً من الموارد، مما يضاعف من الكوارث البيئية"، كما يحذر من تداعيات العولمة وفرض أنماط محددة من البناء، لا تحافظ على البيئة ولا تتناغم مع ثقافة المجتمع.
ديستوبيا الإسكندرية
تعاني مدينة الإسكندرية في العشرين عاماً الماضية من موجات متتالية من البناء العشوائي، وهدم المباني التراثية، وفي الخمس سنوات الماضية تحوّلت المدينة إلى غابة من الإسمنت، دفعت الكثير من المعماريين والمثقفين للتحذير من الانهيار التام للمدينة.
"الإسكندرية لا تحتمل كل هذا العدد من السكّان، المدينة مساحتها صغيرة ومحاطة بالبحر من جانب، وببحيرة من الجانب الآخر، ولا يوجد لها أي ظهير صحراوي، وحتى مدينة برج العرب التي تعتبر متنفساً للإسكندرية ومساحة للتمدّد العمراني، لم تطوّر الحكومة وسائل مواصلات حديثة لانتقال السكان لها، بل بالعكس تعمل الحكومة على تدشين مزيد من المشروعات داخل المدينة" تقول أبو الفضل.
الممارسة العملية
من جهته، ركّز المعماري مصطفى أبو العلا على الفجوة بين "التنظير" و"الواقع"، بين "المعرفة" و"الممارسة"، مشيرًا إلى أنه ليس ضد مصطلح "العمارة المستدامة"، ولكنه يسعى إلى أن يتم تطوير المصطلح ويصبح أكثر تحديدًا وأكثر قدرة على الاشتباك مع الواقع المعاش.
"كيف يمكن أن نحكم على مبنى أنه ينتمي للعمارة المستدامة أم لا؟، لا توجد معايير محددة" يقول أبو العلا، موضحًا أن كثيرًا من الباحثين والمعماريين يتناسون أن هناك شريكاً أساسياً في المنظومة المعمارية وهو "العميل" الذي سوف يستخدم هذه المباني.
وأضاف أبو العلا:" للعميل رغبات وتطلّعات، إضافة إلى الموارد الاقتصادية المحدودة، وبالتالي لا يمكنني كمهندس معماري فرض تصوّري ورؤيتي عليه، وكذلك لا يمكنني تجاهل التكلفة الاقتصادية، لذلك فالحديث عن العمارة المستدامة، يحتاج إلى أن نأخذ في الاعتبار الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فكل تلك المتغيرات تؤثر بشكل مباشر في تخطيط المدن والفلسفة المعمارية القائمة عليها".
سؤال الهوية
في الحوار الممتد مع أعضاء المائدة المستديرة والجمهور، طُرح سؤال الهوية، وكيف يمكن الحفاظ على التراث المعماري القديم، وفي هذا السياق أشارت الأكاديمية مي كرام إلى أن تحقيق العمارة المستدامة لا يعني فقط الحفاظ على التراث المعماري، وتقليده وتكراره، بقدر ما يعني القدرة على تطوير هذا التراث بما يتلاءم مع البيئة واحتياجات المواطنين.
وفي مفارقة حول مفهوم الهوية، أشار أبو العلا إلى أن معظم "التراث المعماري" لمدينة الإسكندرية، تم بناؤه على طراز معماري إيطالي ويوناني وفرنسي، وقامت ببنائه الجاليات الأجنبية، لتلائم حياتها في الإسكندرية خلال الفترة من منتصف القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، في حين أن العمارة المصرية ومساهمة المعماريين المصريين نادرًا ما نلتفت لها، فضلًا عن أن منظومة العولمة أصبحت تروّج لأنماط محددة، والدولة والسلطات المحلية تتبنى هذه التصورات وتطبقها، وهذا تحدٍ كبير نواجهه في مصر، بحسب أبو العلا.
من جهة أخرى، فإن الأمر الذي يستحق الدراسة هو علاقة السياسات المعمارية، إن وجدت، بتخطيط المدن، والانسجام مع الهوية المحلية، وقيمها وذائقتها وتاريخها، كما يمكن التساؤل إن كانت هذه القيم المعمارية المحلية تحمل حلولاً قد تساهم في تحقيق الاستدامة التصميمية فضلاً عن ترسيخ قيم الهوية. بالطبع فإن الأمر قد لا يشمل المشروعات الكبرى مثل مباني المطارات أو المصانع الكبرى التي قد يفترض أن يكون لها صفة العالمية وتعكس حالة الحداثة الحقيقية.
لكن المتتبع لحالة العمران في القاهرة الجديدة وربما الإسكندرية يجد أنها تتأرجح ما بين مبان إدارية وترفيهية تتخذ من صورة الحداثة منهجاً لها، ومبانٍ سكنية مفرطة فى الكلاسيكية الجديدة والتى جاءت لتعبر عن تطلعات ساكنيها في التميز والوصول إلى حالة من الرفاهية.