نجحت الأنظمة المستبدة في بلدان المشرق العربي في سحق وهزيمة الإسلاميين على مدار ما يقرب من قرن على الرغم من تمتّعهم بظهير شعبي عريض مؤيد، وتنظيم هرمي متماسك ضارب في جغرافية الدولة وتاريخها منذ الاستعمار وحتى الوقت الحالي؛ إذ تعرضت حركة الإخوان المسلمين في مصر، لنكبات هائلة في المرحلة الناصرية، وخاصة في عام 1956، ثم توالت الأحداث، وها هي الحركة تكاد تتهاوى تحت ضربات نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي الأمنية والاقتصادية والسياسية، وكذلك خسرت الجماعة الإسلامية المئات من كوادرها التنظيمية وقواعدها الشعبية عندما اصطدمت بنظام الرئيس حسني مبارك، إذ أدى اغتيال النظام للمتحدث باسم الجماعة علاء محيي الدين، في أغسطس/آب 1993، إلى اندلاع شرارة مواجهات دموية عنيفة بين الجماعة وبين نظام مبارك، وتواصلت المواجهات بين الجماعة والنظام سبع سنوات انتهت بإعلان قادة الجماعة الإسلامية مبادرة لوقف العنف في يوليو/تموز1997 بعد قيامها بمراجعات لمنهجها.
وكذلك لا يختلف وضع الإخوان المسلمين في سورية والعراق كثيراً عن نتائج التجربة المصرية؛ إذ يتذكر الجميع مذبحة حماة السورية في عام 1981 والتي استمرت 27 يوماً، بعد قيام النظام السوري بتطويق مدينة حماة وقصفها بالمدفعية ومن ثم اجتياحها عسكريا، وارتكاب مجزرة مروعة كان ضحيتها عشرات الآلاف من المدنيين من أهالي المدينة إثر ترويج النظام لاتهام جماعة الإخوان بتسليح عدد من كوادرها وتنفيذ اغتيالات وأعمال عنف في سورية، من بينها قتل مجموعة من طلاب مدرسة المدفعية في يونيو/حزيران 1979 في مدينة حلب شمال سورية، وهو ما نفاه الإخوان السوريون وتبرؤوا من تلك المجازر وعلى الرغم من ذلك قام الرئيس حافظ الأسد بحظر الجماعة وشن حملة تصفية واسعة في صفوفها، وأصدر القانون 49 عام 1980 الذي يعاقب بالإعدام كل من ينتمي إليها.
تجربة أخرى تخص الإسلاميين في العراق، إذ أصدر الرئيس عبد الكريم قاسم قراراً بحل الجماعة واعتقال قياداتها في الخامس عشر من أكتوبر/تشرين الأول عام 1960، مما أدى إلى تحول الإخوان المسلمين هناك إلى العمل السري منذ عام 1960 وحتى عام 1991.
اقــرأ أيضاً
القتل الممنهج... السرطان ينهش أجساد المعتقلين السياسيين في مصر
الخلل في البنية الأساسية
يعد انتصار الأنظمة على الإسلام السياسي، وعدم قدرة هذه الحركات على تحقيق رؤيتها الاستراتيجية المتداولة بين أنصارها، القاسم المُشترك في الحالات السابقة؛ وهو ما يرجع إلى العديد من العوامل الداخلية والخارجية غير أن هذه المادة تركز على الأبعاد البُنيوية الدينية والأيديولوجية السائدة داخل هذه الحركات والتي تجعل من هزيمتها أمرا ممكنا ومتاحا لخصومها المعاندين، وهذا ما ذهبت إليه ورقة مُقدمة في ندوة "مستقبل الحركات والأحزاب الإسلامية المصرية في ضوء تحديات 3 يوليو من عام 2013 تاريخ الانقلاب العسكري في مصر" والتي عُقدت يوم فبراير/شباط من عام 2018 في العاصمة التركية إسطنبول والتي تقول: "الحركات الإسلامية لم تنجح عبر قرن (كاد أن يكتمل) رغم تعددها وكثرة عددها وتنوع طرق عملها وكثرة محاولاتها وعظيم تضحياتها وجميل صبرها، في تحقيق أهدافها السياسية المشروعة من تغيير أنظمة الحكم الفاسدة العميلة، سواء حاولت تغييرها باللطف أو بالعنف؛ وذلك يرجع إلى الخلل في البنية الأساسية، بشقيها النظري وهو الأصول التي يسمونها أصولا فكرية التي وضعها المؤسسون، والعملي وهو نظرية عمل هذه الجماعات".
ويمكن اعتبار هذه العوامل الثلاثة التالية أبرز ما يتسبب في هزيمة الإسلاميين، وهي وفق التالي:
أولاً: اعتقاد معظم الإسلاميين أن معهم الحق والحقيقة الخالصة
يُعرّف حسن البنا طبيعة جماعته في رسالة "الإخوان تحت راية القرآن"- حسن البنا ص- 197 مجموعة الرسائل: "نحن أيها الناس ـ ولا فخر ـ أصحاب رسول الله، وحملة رايته من بعده، ورافعو لوائه كما رفعوه، وناشرو لوائه كما نشروه، وحافظو قرآنه كما حفظوه، والمبشرون بدعوته كما بشروا، ورحمة الله للعالمين وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِين. فمن تبعنا الآن فقد فاز بالسبق ومن تقاعد عنا من المخلصين اليوم فسيلحق بنا غدا، وللسابق عليه الفضل. ومن رغب عن دعوتنا زهادة، أو سخرية بها، أو استصغارا لها، أو يائساً من انتصارها، فستثبت له الأيام عظيم خطأه"، وهذه الفكرة عندما سيطرت على جماعة الإخوان جعلتهم يحولون كل حدث صغير أو كبير إلى معارك قائمة على مبدأ الولاء والبراء والحق والباطل؛ مما حول التدافع السياسي داخل المجتمع إلى معارك ممتدة ودائمة ومؤلمة؛ إذ يعتبر الإسلاميون أن كل منع لهم وتضييق عليهم هو تضييق على الإسلام! يستوجب تقديم الغالي والنفيس والجهاد بالنفس والمال، وقد دفعتهم هذه القناعة (امتلاك الحق) إلى دخول معارك طاحنة أحياناً تفرضها الأنظمة عليهم وتستدرجهم إليها، وحيناً آخر يتقدمون هم إليها من تلقاء أنفسهم، وهذا مخالف لمنطق السياسة والاستراتيجية، إذ يقول المنظر العسكري والفيلسوف الصيني سون تزو في كتابه فن الحرب: "الذين يعرفون متى يحاربون ومتى لا يحاربون سينتصرون، الذين يتفقون على الأهداف الكبرى والصغرى سينتصرون".
وبالإضافة إلى ما سبق، يمكن القول إن قناعة الإسلاميين بحيازتهم الحق المُطلق ومسؤوليتهم عن دين الله في العالم، أدت إلى إهمالهم ثقافة النقد والتصويب والمراجعات وتقييم المسار والمسيرة التاريخية لهم؛ وجعلتهم يعتبرون سقوط القتلى في معاركهم شهادة، وتعثر خططهم ابتلاء، وعدم تحقيقهم أهدافهم فتنةً تستوجب الصمود، وأن الهزيمة قدر من أقدار الله عليهم! بذلك يكون انتصار خصومهم مسألة وقت! والأخطر في إيمان الإسلاميين بحيازتهم الحق المُطلق أن تصبح فكرة "أن من لديه الحق لا بد أن ينتصر" وهذا مناف للسنن وحقائق التدافع والمعارك؛ إذ إن النصر في السياسة والحروب خاضع لعوامل صارمة ومتنوعة تناولها العديد من المفكرين والمتخصصين، ومن بينهم مثلا سون تزو، والذي جعل الاعتقاد في امتلاك الحق عاملاً واحداً من أسس النصر، وسط أربعة عوامل أخرى.
اقــرأ أيضاً
انهيار الجنيه المصري... هكذا يدفع المصريون ثمن إصلاحات السيسي
ثانياً: تعالي الحركات الإسلامية على المطالب الجماهيرية
يقوم الخيال السياسي للحركات الإسلامية في بلدان المشرق العربي على أن الجماهير الغفيرة ستتحرك لنصرتهم والدفاع عنهم من أجل مبادئهم السامية وتطلعاتهم الدينية والأخلاقية السامقة، بغض النظر عن العواقب والتحديات والتضحيات المتوقعة، وهذا قد يصلح مع قلة من الناس وفئة محددة من الشعب، ولكن تحرك ملايين من البشر والجماهير في التجربة الإنسانية غالباً ما يكون طلباً لتحسين ظروف العيش الكريم من مأكل ومشرب ومسكن وتعليم وصحة، بعيداً عن اشتباكات المعارك الأيديولوجية والفكرية كما كان شعار ثورة 25 يناير 2011 في مصر "عيش حرية كرامة إنسانية".
وترتب على عدم إدراك الحركات الإسلامية لسيكولوجية الجماهير والشعوب بأن أصبح اهتمام الحركات الإسلامية بمطالب الجماهير الحياتية المباشرة ضعيفاً وباهتاً في أفضل الأحوال، وإذا حصل يكون موسمياً وأحيانا يكون مستهجناً؛ إذ يلاحظ المراقبون للمشهد السياسي في دول المشرق العربي، وخاصة قبل حصول ثورات الربيع العربي غياب أي حراك شعبي وجماهيري يقوده إسلاميون يستهدفون المطالبة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للطبقات المُهمشة والضعيفة في المجتمع، ولذلك لا تجد الأنظمة المستبدة في المنطقة صعوبة تُذكر في عزل الحركات الإسلامية عن التجمعات الجماهيرية العريضة القادرة على التغيير والثورة وهو ما يسهل عليها الانفراد بها وحشرها في الزاوية وسحقها بدون أي توترات اجتماعية أو جماهيرية متوقعة.
اقــرأ أيضاً
العساكر في مصر... الحقيقة الضائعة بين فيلمين
ثالثاً: جمود خطط ووسائل الحركات الإسلامية
يعد بناء تنظيم قوي وسري ذي قيادة هرمية؛ من أهم وسائل الإسلاميين المُتبعة تاريخياً لتحقيق أهدافهم، غير أن هذه الوسيلة من أهم أسباب جلب استعداء الأنظمة للحركة الإسلامية؛ فوجود تنظيم عقائدي قوي داخل الدول الوطنية ذات النشأة العسكرية أمر مستفز للجهاز الأمني يجعل احتمالات الصدام والاشتباك قوية جداً؛ فالتجربة المصرية في عهد عبد الناصر، والسادات، وعبد الفتاح السيسي شاهدة على ذلك، وعلى الرغم من حصاد هذه الوسيلة المر على الحركة وعلى المجتمع، نجد إصراراً من قيادات الحركة الإسلامية على الإبقاء على هذه الوسيلة باعتبارها ثابتاً من ثوابت الحركة التي لا تخضع للنقاش والحوار والنقد، فأصبح الاقتراب من مناقشة جدواها داخل صفوف الحركة بمثابة التعرض لثوابت الإسلام نفسه كما ذكر الدكتور جاسم سلطان في كتابه أزمة التنظيمات الإسلامية، (الإخوان المسلمين نموذجا ص 64 ،65)، ويكاد يكون المُغادر للتنظيم في نظر معظم الإسلاميين كمن خرج من الإسلام! وهناك كتب تطرح هذه الفكرة مثل كتاب الأستاذ فتحي يكن "المتساقطون على طريق الدعوة"، بالمقابل فإنه مع تراكم الخبرات الأمنية للأنظمة العربية أصبح من السهل عليها الإيقاع بهذه التنظيمات الهرمية عبر اختراقها، وأحياناً السيطرة عليها والتأثير على مراكز صنع القرار فيها، سواء بالترغيب أو الترهيب، ووفق استراتيجيات الصراع السياسي لا ينبغي للحركات المناضلة أن تجمد على تكنيك واحد في القتال؛ إذ ينصح الخبير الصيني تزو في كتابه قائلا: "يمكن لجميع الرجال أن يروا الخطط التي بواسطتها يُقهر العدو، ولكن الذي يجب أن يخفى على الجميع الاستراتيجية التي من خلالها يأتي النصر، فلا تكرر التكتيكات التي أكسبتك النصر مرة، ولكن دع أساليبك يمكن تنظيمها وتطويعها حسب الظروف التي لا حدود لتنوعها".
في الختام يمكن من خلال ما سبق إدراك أن الحركات الإسلامية إذا أرادت أن تكون رصيداً مُضافاً للمجتمع والدولة لا بد لها من تطوير أفكارها وأيديولوجيتها ووسائلها بما يجعلها متناغمة مع مصالح الجماهير، ومنحازة لقيم الحرية والكرامة الإنسانية بعيداً عن الإغراق في الأيديولوجية الضيقة التي تعزلهم عن المجتمع والناس، وتجعلهم يعيشون في جزر معزولة.