03 أكتوبر 2024
الإسلام السياسي والعلمانية
لا شك في أهمية قرار حركة النهضة التونسية فصل الدعوة عن السياسة، وتحولها إلى حزب سياسي مدني، منخرط في الصراع الاجتماعي والسياسي السلمي، وفق قواعد التنافس الديمقراطي وآلياته. وفي الوسع القول إن ما خرجت به الحركة في مؤتمرها، أخيراً، يطرح، إلى حد كبير، تحدّيات نظريةً وسياسية ًكبيرة ًبالنسبة لسيرورة الإسلام السياسي، بكل حركاته وتياراته. ولكن، لا ينبغي الإفراط في التفاؤل بشأن الامتدادات السياسية والاجتماعية المحتملة للحدث، فالقرار يجب أن يُقرأ ضمن سياقه التونسي البحت، المحكوم أولاً بتجربة الانتقال الديمقراطي، التي لا تزال تبحث عمّا يعزّز بنياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية ويطوّرها، ويدفع بها إلى الأمام، في أفق تحصينها وحمايتها في محيطٍ عربي تجتاحه الفوضى، وثانياً، بموازين القوى القائمة، والتي يبدو أن الحركة استوعبتها جيداً، قبل أن تقدم على قرارها.
والواقع أن الرغبة في الخروج بالحدث إلى سياقه العربي والإسلامي تكشف، من ناحية، أزمةَ الاجتماع السياسي العربي، وعجزه عن صياغة تعاقداتٍ اجتماعية جديدة، في ظل التصلب العقائدي والفكري الذي يطغى على جل الحركات والتنظيمات السياسية العربية، ما يحول دون إعادة بناء علاقة الدولة بالمجتمع، على أساس الانحياز لقيم الحداثة والحرية والديمقراطية والعدالة. ومن ناحية أخرى، تعبر هذه الرغبة عن انتظارات القوى العلمانية والليبرالية واليسارية التي تتطلع إلى أن يفتح قرار إحدى أهم حركات الإسلام السياسي العربية المجالَ أمام علمنةٍ تتسرّب، بشكلٍ ما، إلى البنيات الاجتماعية والثقافية العربية، ضمن أفقٍ يعيد طرح قضايا التراث والحداثة والإصلاح والدولة الوطنية، على قاعدة التوافق الوطني، لا سيما بعد زلزال الربيع العربي، ومآلاتـه التراجيدية.
على ضوء ذلك: هل يمكن أن يسهم قرار حركة النهضة، على أهميته الدالة، في فتح ثغرة في جدار الإسلام السياسي العربي، بإعادة طرح إشكالية العلمانية، من دون أن يثير ذلك أي توتر هوياتي أو قيمي، خصوصا في ظل سوء الفهم الذي ظل يلاحق هذه الإشكالية في المجتمعات العربية؟ هل تستطيع الحركة أن تسهم، من موقعها، طرفاً في الصراع السياسي السلمي والديمقراطي (في السلطة والمعارضة) في صياغة وإنجاز سياسات عمومية، تتضمن نِسبا معينة من العلمنة، خصوصاً في ما يتعلق بقضايا التربية والتعليم والمرأة والمجتمع المدني والطبقات الوسطى؟ بمعنى، ما هي إمكاناتها، وقد فصلت بين الدعوي والسياسي، في الإسهام في فتح أوراش التحديث المجتمعي الذي تتوازى فيها الديمقراطية والعلمانية باعتبارهما رافعتين أساسيتين لأي مشروع تنويري وحضاري، يتغيا التفاعل الإيجابي والمثمر مع العصر؟
من هنا، يطرح الحدث التونسي تحديات بالغة في ما يخص قدرته على إنتاج صيغ جديدة في علاقة حركات الإسلام السياسي بالعلمانية والديمقراطية، من دون أن يعني ذلك بطبيعة الحال، استحضاراً أو تكراراً للتجربة التاريخية الغربية، التي تميّزت بنزوع السلطة الدينية إلى الهيمنة على السلطة السياسية، في حين أن التجربة العربية والإسلامية، بوجه عام، تتميز بسعي الأنظمة والنخب الحاكمة والحركات السالفة الذكر إلى توظيف الدين في الصراع السياسي والاجتماعي، وتسخيره لخدمة أجنداتها ومصالحها. ومع استمرار هذا الوضع، بأشكال مختلفة، تتقلص إمكانات بناء مشروع وطني واضح المعالم، ومتوافق عليه، بما يفضي إلى إقامة أنظمةٍ ديمقراطيةٍ ومدنيةٍ تنبني على الحرية والمساواة واحترام الحق في الاختلاف. وبذلك، لا تكتسي العلمانية أهميتها الحيوية والمصيرية في المجتمعات العربية، إلا باشتباكها المنتج مع الديمقراطية ضمن ما تطرحه معركة التحديث، بكل إكراهاتها، فلا يمكن لأي مشروع ديمقراطي فتي أن يذهب بعيداً، من دون أن تواكبه علمنةٌ، ولو نسبية، للبنيات والذهنيات. ويمكننا القول، هنا، إن ذلك كان مبعث هذا الاهتمام الكبير الذي حظي به قرار حركة النهضة، بما هو مدخل لزواج محتمل بين ديمقراطية تونسية تخطو خطواتها الأولى، وتطلعٍ إلى علمانية متدرجة.
أهمية قرار حركة النهضة رهينة بمدى قدرة راشد الغنوشي ورفاقه على تنزيل مخرجاته، والدفع بها إلى معترك الواقع، بعيداً عن الأرثوذوكسية الفكرية والإيديولوجية التي طبعت خطاب الحركات الإسلامية في العقود المنصرمة. ولعل نجاحهم في ذلك، ولو نسبياً، سيجعل هذه الحركات، لا سيما المعتدلة منها، مطالبةً، أكثر من أي وقت مضى، باجتراح فكرها واستراتيجياتها وبرامجها، انطلاقاً من شروط بلدانها، وموازين القوى وأشكال الصراع السياسي والاجتماعي فيها، هذا إذا ما أرادت أن تكون طرفاً فاعلاً في الإسهام في حل مشكلات مجتمعاتها المتراكمة. وتُنبئنا سوسيولوجيا الحياة اليومية بأن مساحاتٍ واسعةً من الوعي والسلوك والعلاقات الاجتماعية في العالم العربي تبدو مُعلمنةً في حدود معينة، مما يعني أن هناك رصيداً اجتماعيا وثقافياً لا يستهان به، يمكن الانطلاق منه لبلورة توليفة تُصالح الإسلام السياسي مع أبرز موارد الحداثة السياسية.
والواقع أن الرغبة في الخروج بالحدث إلى سياقه العربي والإسلامي تكشف، من ناحية، أزمةَ الاجتماع السياسي العربي، وعجزه عن صياغة تعاقداتٍ اجتماعية جديدة، في ظل التصلب العقائدي والفكري الذي يطغى على جل الحركات والتنظيمات السياسية العربية، ما يحول دون إعادة بناء علاقة الدولة بالمجتمع، على أساس الانحياز لقيم الحداثة والحرية والديمقراطية والعدالة. ومن ناحية أخرى، تعبر هذه الرغبة عن انتظارات القوى العلمانية والليبرالية واليسارية التي تتطلع إلى أن يفتح قرار إحدى أهم حركات الإسلام السياسي العربية المجالَ أمام علمنةٍ تتسرّب، بشكلٍ ما، إلى البنيات الاجتماعية والثقافية العربية، ضمن أفقٍ يعيد طرح قضايا التراث والحداثة والإصلاح والدولة الوطنية، على قاعدة التوافق الوطني، لا سيما بعد زلزال الربيع العربي، ومآلاتـه التراجيدية.
على ضوء ذلك: هل يمكن أن يسهم قرار حركة النهضة، على أهميته الدالة، في فتح ثغرة في جدار الإسلام السياسي العربي، بإعادة طرح إشكالية العلمانية، من دون أن يثير ذلك أي توتر هوياتي أو قيمي، خصوصا في ظل سوء الفهم الذي ظل يلاحق هذه الإشكالية في المجتمعات العربية؟ هل تستطيع الحركة أن تسهم، من موقعها، طرفاً في الصراع السياسي السلمي والديمقراطي (في السلطة والمعارضة) في صياغة وإنجاز سياسات عمومية، تتضمن نِسبا معينة من العلمنة، خصوصاً في ما يتعلق بقضايا التربية والتعليم والمرأة والمجتمع المدني والطبقات الوسطى؟ بمعنى، ما هي إمكاناتها، وقد فصلت بين الدعوي والسياسي، في الإسهام في فتح أوراش التحديث المجتمعي الذي تتوازى فيها الديمقراطية والعلمانية باعتبارهما رافعتين أساسيتين لأي مشروع تنويري وحضاري، يتغيا التفاعل الإيجابي والمثمر مع العصر؟
من هنا، يطرح الحدث التونسي تحديات بالغة في ما يخص قدرته على إنتاج صيغ جديدة في علاقة حركات الإسلام السياسي بالعلمانية والديمقراطية، من دون أن يعني ذلك بطبيعة الحال، استحضاراً أو تكراراً للتجربة التاريخية الغربية، التي تميّزت بنزوع السلطة الدينية إلى الهيمنة على السلطة السياسية، في حين أن التجربة العربية والإسلامية، بوجه عام، تتميز بسعي الأنظمة والنخب الحاكمة والحركات السالفة الذكر إلى توظيف الدين في الصراع السياسي والاجتماعي، وتسخيره لخدمة أجنداتها ومصالحها. ومع استمرار هذا الوضع، بأشكال مختلفة، تتقلص إمكانات بناء مشروع وطني واضح المعالم، ومتوافق عليه، بما يفضي إلى إقامة أنظمةٍ ديمقراطيةٍ ومدنيةٍ تنبني على الحرية والمساواة واحترام الحق في الاختلاف. وبذلك، لا تكتسي العلمانية أهميتها الحيوية والمصيرية في المجتمعات العربية، إلا باشتباكها المنتج مع الديمقراطية ضمن ما تطرحه معركة التحديث، بكل إكراهاتها، فلا يمكن لأي مشروع ديمقراطي فتي أن يذهب بعيداً، من دون أن تواكبه علمنةٌ، ولو نسبية، للبنيات والذهنيات. ويمكننا القول، هنا، إن ذلك كان مبعث هذا الاهتمام الكبير الذي حظي به قرار حركة النهضة، بما هو مدخل لزواج محتمل بين ديمقراطية تونسية تخطو خطواتها الأولى، وتطلعٍ إلى علمانية متدرجة.
أهمية قرار حركة النهضة رهينة بمدى قدرة راشد الغنوشي ورفاقه على تنزيل مخرجاته، والدفع بها إلى معترك الواقع، بعيداً عن الأرثوذوكسية الفكرية والإيديولوجية التي طبعت خطاب الحركات الإسلامية في العقود المنصرمة. ولعل نجاحهم في ذلك، ولو نسبياً، سيجعل هذه الحركات، لا سيما المعتدلة منها، مطالبةً، أكثر من أي وقت مضى، باجتراح فكرها واستراتيجياتها وبرامجها، انطلاقاً من شروط بلدانها، وموازين القوى وأشكال الصراع السياسي والاجتماعي فيها، هذا إذا ما أرادت أن تكون طرفاً فاعلاً في الإسهام في حل مشكلات مجتمعاتها المتراكمة. وتُنبئنا سوسيولوجيا الحياة اليومية بأن مساحاتٍ واسعةً من الوعي والسلوك والعلاقات الاجتماعية في العالم العربي تبدو مُعلمنةً في حدود معينة، مما يعني أن هناك رصيداً اجتماعيا وثقافياً لا يستهان به، يمكن الانطلاق منه لبلورة توليفة تُصالح الإسلام السياسي مع أبرز موارد الحداثة السياسية.