الإسلام موضوعاً للساسة
يمكن القول إن عصر النهضة الذي دشنته أسماء، مثل رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي، حاول، في بداياته، أن يُثبت مقولة مفترضة ضمناً، هي أنه "ليس في ليبرالية الغرب ما يخالف الإسلام"، لكنه تدهور ليصير محاولة بائسة لإثبات "أن الإسلام لا يخالف الليبرالية"... في المقولة الأولى، تتم محاكمة الليبرالية الغربية في الإسلام، باعتباره مرجعاً وكاشفاً وفاحصاً لقيمتها الحقيقية، أما في الثانية فيحدث العكس. في المقولة الأولى، الإسلام هو الثابت، والليبرالية تُعرض عليه ليتم النظر بشأنها، تُستحسن أو تُستقبح. أما في الثانية، فإن الإسلام/ الدين، وباستحضار أحوال المسلمين، يوضع تحت ضغط الليبرالية الغربية ومنجزاتها وتقدم الشعوب الأوروبية. المقولتان ليستا مختلفتين فحسب، بل متناقضتان أيضاً.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حصل زخم ملحوظ في تحوّل الإسلام (الدين)، وليس التدين (كتمظهر اجتماعي للدين) إلى مادة للبحث والدراسة لدى الغرب، بدا أن استشراقاً جديداً يتشكل، وكأن العالم يبحث عمّا يشغله، وبشكل أدق، كأن العالم الغربي هو الذي يبحث عمّا يشغله، فمشاغل العالم هي مشاغل الغرب. لقد أصبح في الثقافات خطاب يحجب واقع الراهن الحقيقي لهذه الثقافة، أو تلك، ليجعله راهناً غربياً في عالم غير غربي.
أصبح الغرب مشغولاً بمسألة (وجود الإسلام في العالم)، وأثر هذا الدين في معتنقيه، والمعاني والقيم التي يمد بها الإسلام أتباعه، وأحدث هذا الانشغال صدىً لدى بعض المسلمين، في ما يخص الاهتمام، وربما الهوس، بما يقوله الغرب عن الإسلام إيجاباً أو سلباً. وباتت دعوة في الغرب إلى حرق المصاحف، مثلاً، تملأ الإعلام العربي وشبكة التواصل العربية بنقاشٍ كثير. في منتصف التسعينيات، كتب صمويل هنتنجتون كتابه (صراع الحضارات)، والذي يمكن اعتباره إجابة على سؤال: كيف نسيطر على المسلمين في العالم ونضبطهم؟
وجد هذا الانشغال صداه عند مثقفين عرب، وتحول الإسلام (الدين) إلى معضلة البحث ومادة التفكر، ولا أشهر هنا من مثال صراع الدين والإيمان. كان الاشتغال الفكري لدى مثل هؤلاء لا يمليه عليه واقعهم، بل واقع الآخرين، كانت تساؤلاتهم لا تُبنى ذاتياً، بل يبنيها الآخرون. فاتت فرصة استنطاق الإسلام في مواجهة الواقع. تم جعل الإسلام مادة تشريحية جامدة، تحيط بها أنياب حادة من كل اتجاه. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، لم يعد هذا الانشغال حكراً على المهتمين بمقارنة الأديان واللاهوتيين. بل صار حديثاً مألوفاً في بيوت القرار السياسي وعالم السياسيين وتصريحاتهم.
ويبدو الرئيس الأميركي باراك أوباما، وهو أحد أكثر الرؤساء الأميركيين ثقافة، في هذا الموضوع، واعظاً للمسلمين عن مقدار التسامح والمحبة التي يحويها الدين الإسلامي، بل يبدو، أحياناً، إصلاحياً مثل مارتن لوثر، أو كالفن، في المسيحية، وابن تيمية أو ابن عبد الوهاب في الإسلام، يريد أن يُنقي الإسلام مما يعتقد هو أنه قد أُلحق به خطأً أو عمداً، وأن يحذر المسلمين من أن يجعلوا ما ليس من دينهم جزءًا منه. وقد تحدث أوباما إلى المسلمين خصيصاً في مرتين رئيستين، في محاولات لترميم ما هدمه سلفه، في اسطنبول والقاهرة. وفي فترتيه الرئاسيتين، خصص محاضرتين لأتباع الدين الإسلامي. هذا تمييز لهم أساسه اعتناقهم للدين الإسلامي، الحديث إليهم باعتبارهم مسلمين، أي أنه ضمناً كان عن الإسلام.
ومن الرئيس إلى وزير خارجيته، جون كيري، لم يغب الحديث عن الإسلام والمسلمين، ففي أثناء وجوده في جده لحشد التحالف الدولي ضد تنظيم داعش، وصف الإسلام بالدين السلمي، وبأنه بريء من أفعال داعش. ليس الإشكال، هنا، في محتوى حديثهم، بل في حديثهم نفسه، وفي استقباله في الإعلام العربي. بعض وسائل الإعلام العربية عنونت حديث كيري بـ"كيري يتحدث عن حقيقة الإسلام"، وتشبه هذه العنونة إيجاد الضالِ الحقيقةَ التي تاهت منه. وإذا ما أعدنا صياغة مثل هذا العنوان، يمكن أن نقول: كيري يخبر المسلمين بحقيقة دينهم.
ليس حضور الإسلام في أحاديث الساسة الغربيين وخطاباتهم طبيعياً، فهو يخبر إلى أي مدى أصبح الإسلام مُشكلاً سياسياً لديهم، عوض مشكلات حقيقية، كالاحتلال والظلم والتحالف مع الاستبداد والاحتكارات التجارية وتفاوت ثراء البشرية. وصدى هذا الحضور مشكل آخر لدى المسلمين أنفسهم، فعقدة الاعتراف بالدين الإسلامي وجماله وتسامحه وعظمة نبيه هي مشكل هذا الحضور. كأنه يكفينا منهم أن يقولوا كلاماً جميلاً فيه، ويكفينا منه أن يكون محل رضاهم.