05 يونيو 2017
الإصرار على التفسير الطائفي للصراعات
الظواهر والصراعات السياسية معقدة، ولا يمكن مقاربتها تحليلياً بالتبسيط والاختزال. هذه ركيزة أساسية لأي تحليلٍ يراعي الموضوعية، ويسعى إلى فهم الظواهر من حولنا جيداً، لكنها بالتأكيد تغيب عن التحليلات الممزوجة بالتشنج التي تزخر بها وسائل الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي، وهي تحليلاتٌ تخلط تفسير الظواهر والصراعات بالتحشيد والتعبئة، نتيجة الانخراط المباشر عاطفياً أو سياسياً ضمن حالة الاستقطاب القائمة في المشرق العربي، وتتخذ التفسيرات، كما التعبئة، شكلاً طائفياً، تماشياً مع تمظهر الاستقطاب الحالي، كما تقدّمه وسائل الإعلام، وبعض الخطابات السياسية. للإصرار على تبسيط الصراعات، بتفسيرها طائفياً، أسباب تتعدى محاولة الفهم، أو حتى وضع اليد على أسباب الأزمة لمعالجتها، إلى تعبئة الجمهور واستنفاره.
لا بد من التأكيد أن التفسير الطائفي للصراع قاصرٌ في فهمه، ولا يشرح تعقيداته، إذ إن القول إن الصراع سني- شيعي في المشرق العربي ينطوي على اختزالٍ لا يمكنه أن يجيب على الأسئلة البسيطة بشأن توزيع القوى المتصارعة على ضفتي الصراع، وهي قوىً لا تنقسم عمودياً على أساس طائفي، وإنما هناك مصالح وحسابات معقدة، تملي اصطفافاتٍ ليست طائفية الطابع، مع التسليم بوجود قوىً وراياتٍ طائفية، لكن هذا لا يعبّر عن جوهر الصراع في المنطقة، المتعلق بأجنداتٍ سياسية متضاربة، ومصالح اقتصادية متناقضة، وصراعات محاور إقليمية وقوى دولية على النفوذ.
في الحالة السورية، مثلاً، لا يمكن للتفسير الطائفي أن يشرح حالة الجيش السوري وضباطه، ولماذا ظلوا مدافعين عن النظام، خصوصاً أن الضباط ليسوا جميعاً من العلويين، وكثير من الجنود الذين لم ينشقوا هم من السنة، من أبناء الأرياف والعشائر. حاول الباحث خضر خضور الخروج عن التفسيرات الطائفية المعلبة، لفهم سلوك ضباط الجيش السوري، وأسهب في بحثٍ له بالحديث عن نظام السكن العسكري، بوصفه نموذجاً للمنافع والامتيازات التي يحصل عليها الضباط، القادمون من الأرياف، والمنتمون إلى الطبقة الوسطى- الدنيا، لتسهم، بشكل أساسي، في تشكيل موقفهم المدافع عن النظام، دفاعاً عن الامتيازات التي ساهمت في ترقيهم اجتماعياً. تفسير الصراع طائفياً لا يمكنه فهم موقف الجيش، كما لا يمكنه شرح التعقيد في المشهد الذي يدفع قوى مُعارِضة إلى الاحتراب، كما في حالة "جبهة النصرة" و"جبهة ثوار سوريا"، أو في حالة "جيش الإسلام" و"فيلق الرحمن" في الغوطة.
حتى في العراق، حيث التمظهر الأوضح للطائفية، بوجود قوىً وميليشياتٍ طائفية متناحرة، لا يمكن تفسير الصراع بمعزلٍ عن التدخلات الإقليمية والدولية المتنافسة على النفوذ، كما في باقي المنطقة، ولا عن الانقسام ضد الحكومة العراقية ومعها، بين فصائل وقوى وعشائر سنية، وهو ما يتعامل معه مروجو التفسير الطائفي باستخفافٍ، للاستمرار في تفسيرهم الطائفي، بالقول إن القوى السنية المتحالفة مع حكومة بغداد لا تمثل السنة، وهي ديكورٌ لا أكثر، وبعيداً عن التدقيق في الأسس التي بُنِي عليها هذا الحكم، فإن التفسير الطائفي يتجاوز الإصرار على فهمٍ محدّدٍ لنمط الصراع، في الغالب، إلى تأجيج الصراع باستخدام الطائفية، والدفع نحو تطييف الصراع، لإثبات صحة تفسيره طائفياً.
ينطبق هذا على قوىً ونخب عراقية موالية للحكم الحالي، تدافع عن هيمنة شيعيةٍ على نظام
المحاصصة الطائفي، وتستخدم التعبئة الطائفية وسيلةً للإبقاء على الوضع القائم، كذلك، فإن معارضي هذا الحكم الطائفي، من نخب وإعلاميين عراقيين وعرب، يقومون بتحشيدٍ طائفي، إلى درجة تبرير التحالف مع تنظيم داعش، وصيحات "يا غيرة الدين" على أهل السنة في الفلوجة وغيرها، كما الحديث عن طائفية النظام، لا تشي إلا بعقليةٍ طائفيةٍ تماثل الطائفيين في الحكومة العراقية، وتعاكسهم في الاتجاه.
لا ينطلق نقد النظام الطائفي في العراق عند هؤلاء من رفض المحاصصة، أو من رفض تحويل المكونات المذهبية إلى جماعاتٍ سياسية، بل من رفض هيمنة الطائفيين الشيعة على النظام، وأحقية الطائفيين السنة بحصةٍ أكبر، كما أن هؤلاء لا يهتمون بأن هذه السلطة تحكم دولةً متآكلة، سيادتها منتهكة، وإنما ينصب اهتمامهم على تأجيج صراعات الهوية، وتشريع انتهاك طرفٍ إقليمي أو دولي للسيادة دون خصمه.
يمثل هؤلاء صورةً للعجز عن إنتاج حالةٍ وطنيةٍ عابرة للطوائف والجماعات الأهلية، تتضاد مع فئوية النظام، ويفضلون الحل الأسهل (وهو أسهل بالفعل)، أي التحشيد بالشعارات والمظلومية الطائفية، وهم يحوّلون معارضة طائفية النظام، بكل مكوناته الطائفية، إلى معارضة "شيعية" النظام، مندمجين في اللغة الطائفية. كذلك، فإنهم لا يخجلون من عرض أنفسهم على القوى الإقليمية والدولية، ليكونوا توابع لها، يقاتلون في خدمتها، مقابل مساعدتهم ضد خصومهم في البلاد.
تفسير الصراع طائفياً، من وسائل إعلام ونخب وناشطين في "فيسبوك" و"تويتر"، يتجاوز في الغالب تحليل الصراع لفهمه إلى تأجيج الصراع، والتعبئة والتحشيد لمصلحة فرقاء معينين، وتبرير طائفيتهم والاصطفاف معها، عبر التأكيد على تلوّن كل المشهد بالطائفية، وبدلاً من مواجهة الطائفية بخطابٍ وطني، يصبح مشروعاً، بل واجباً، مواجهة الطائفية بمزيدٍ منها، واستخدام الكذب والانتقائية حول الأوضاع الإنسانية، لخدمة أجنداتٍ سياسية. ليست المسألة تسطيحاً لظاهرةٍ أو صراع وحسب، هي أيضاً وسيلة للاستنفار من أجل استمرار الصراع، لتظهير مزيد من الأحقاد.
لا بد من التأكيد أن التفسير الطائفي للصراع قاصرٌ في فهمه، ولا يشرح تعقيداته، إذ إن القول إن الصراع سني- شيعي في المشرق العربي ينطوي على اختزالٍ لا يمكنه أن يجيب على الأسئلة البسيطة بشأن توزيع القوى المتصارعة على ضفتي الصراع، وهي قوىً لا تنقسم عمودياً على أساس طائفي، وإنما هناك مصالح وحسابات معقدة، تملي اصطفافاتٍ ليست طائفية الطابع، مع التسليم بوجود قوىً وراياتٍ طائفية، لكن هذا لا يعبّر عن جوهر الصراع في المنطقة، المتعلق بأجنداتٍ سياسية متضاربة، ومصالح اقتصادية متناقضة، وصراعات محاور إقليمية وقوى دولية على النفوذ.
في الحالة السورية، مثلاً، لا يمكن للتفسير الطائفي أن يشرح حالة الجيش السوري وضباطه، ولماذا ظلوا مدافعين عن النظام، خصوصاً أن الضباط ليسوا جميعاً من العلويين، وكثير من الجنود الذين لم ينشقوا هم من السنة، من أبناء الأرياف والعشائر. حاول الباحث خضر خضور الخروج عن التفسيرات الطائفية المعلبة، لفهم سلوك ضباط الجيش السوري، وأسهب في بحثٍ له بالحديث عن نظام السكن العسكري، بوصفه نموذجاً للمنافع والامتيازات التي يحصل عليها الضباط، القادمون من الأرياف، والمنتمون إلى الطبقة الوسطى- الدنيا، لتسهم، بشكل أساسي، في تشكيل موقفهم المدافع عن النظام، دفاعاً عن الامتيازات التي ساهمت في ترقيهم اجتماعياً. تفسير الصراع طائفياً لا يمكنه فهم موقف الجيش، كما لا يمكنه شرح التعقيد في المشهد الذي يدفع قوى مُعارِضة إلى الاحتراب، كما في حالة "جبهة النصرة" و"جبهة ثوار سوريا"، أو في حالة "جيش الإسلام" و"فيلق الرحمن" في الغوطة.
حتى في العراق، حيث التمظهر الأوضح للطائفية، بوجود قوىً وميليشياتٍ طائفية متناحرة، لا يمكن تفسير الصراع بمعزلٍ عن التدخلات الإقليمية والدولية المتنافسة على النفوذ، كما في باقي المنطقة، ولا عن الانقسام ضد الحكومة العراقية ومعها، بين فصائل وقوى وعشائر سنية، وهو ما يتعامل معه مروجو التفسير الطائفي باستخفافٍ، للاستمرار في تفسيرهم الطائفي، بالقول إن القوى السنية المتحالفة مع حكومة بغداد لا تمثل السنة، وهي ديكورٌ لا أكثر، وبعيداً عن التدقيق في الأسس التي بُنِي عليها هذا الحكم، فإن التفسير الطائفي يتجاوز الإصرار على فهمٍ محدّدٍ لنمط الصراع، في الغالب، إلى تأجيج الصراع باستخدام الطائفية، والدفع نحو تطييف الصراع، لإثبات صحة تفسيره طائفياً.
ينطبق هذا على قوىً ونخب عراقية موالية للحكم الحالي، تدافع عن هيمنة شيعيةٍ على نظام
لا ينطلق نقد النظام الطائفي في العراق عند هؤلاء من رفض المحاصصة، أو من رفض تحويل المكونات المذهبية إلى جماعاتٍ سياسية، بل من رفض هيمنة الطائفيين الشيعة على النظام، وأحقية الطائفيين السنة بحصةٍ أكبر، كما أن هؤلاء لا يهتمون بأن هذه السلطة تحكم دولةً متآكلة، سيادتها منتهكة، وإنما ينصب اهتمامهم على تأجيج صراعات الهوية، وتشريع انتهاك طرفٍ إقليمي أو دولي للسيادة دون خصمه.
يمثل هؤلاء صورةً للعجز عن إنتاج حالةٍ وطنيةٍ عابرة للطوائف والجماعات الأهلية، تتضاد مع فئوية النظام، ويفضلون الحل الأسهل (وهو أسهل بالفعل)، أي التحشيد بالشعارات والمظلومية الطائفية، وهم يحوّلون معارضة طائفية النظام، بكل مكوناته الطائفية، إلى معارضة "شيعية" النظام، مندمجين في اللغة الطائفية. كذلك، فإنهم لا يخجلون من عرض أنفسهم على القوى الإقليمية والدولية، ليكونوا توابع لها، يقاتلون في خدمتها، مقابل مساعدتهم ضد خصومهم في البلاد.
تفسير الصراع طائفياً، من وسائل إعلام ونخب وناشطين في "فيسبوك" و"تويتر"، يتجاوز في الغالب تحليل الصراع لفهمه إلى تأجيج الصراع، والتعبئة والتحشيد لمصلحة فرقاء معينين، وتبرير طائفيتهم والاصطفاف معها، عبر التأكيد على تلوّن كل المشهد بالطائفية، وبدلاً من مواجهة الطائفية بخطابٍ وطني، يصبح مشروعاً، بل واجباً، مواجهة الطائفية بمزيدٍ منها، واستخدام الكذب والانتقائية حول الأوضاع الإنسانية، لخدمة أجنداتٍ سياسية. ليست المسألة تسطيحاً لظاهرةٍ أو صراع وحسب، هي أيضاً وسيلة للاستنفار من أجل استمرار الصراع، لتظهير مزيد من الأحقاد.