قبل ست سنوات تماماً، وفي أيام كهذه الأيام، بينما كان اللبنانيون ينتخبون بلدياتهم، كانت قرية لبنانية صغيرة تدعى كترمايا (إقليم الخروب ــ جنوب بيروت) تذبح وتسحل وتطعن مواطناً مصرياً بعد اتهامه بعملية قتل في البلدة. قرّرت بلدة بسكانها الثأر من متّهم، بقتله أمام كاميرات التلفزيونات، وأمام الهواتف المحمولة التي صوّرت تفاصيل الجريمة وانتشرت في كل مكان. رجل يلفظ أنفاسه معلّقاً على عمود في ساحة القرية والدم ينزل من جسده. كان ذلك قبل ست سنوات تماماً، وفي أيام كهذه الأيام.
كان القتل بصيغته الفجة جديداً على الشاشات اللبنانية. القتل الذي يظهر فيه القاتل ويتباهى بجريمته وسط تعاطف يقوم على شدّ العصب اللبناني بوجه "غريب قتل أطفالاً من القرية". وحدها جثث الشهداء الذين قتلهم الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان كانت تظهر. وهي جثث عليها ما يشبه الإجماع الوطني. القاتل عدوّ، والمقتول مواطن لبناني. أما كترمايا فافتتحت عصراً جديداً، من "تلفزيون الواقع" الذي يظهر فيه القاتل والمقتول. يطل القاتل على الهواء ويفاخر بجريمته من دون خوف، ووسط حماية سياسية وطائفية.
يوم أمس عدنا إلى مربّع كترمايا. فقد الإعلام اللبناني صوابه فجأة، بعد جريمة قتل الشاب حسين الحجيري من قبل معروف حمية، والد الجندي الشهيد محمد حمية الذي أعدمته "جبهة النصرة". قرّر الوالد الانتقام لابنه بقتل بريء تهمته الوحيدة صلة القرابة بينه وبين من يتهمه الأب بخطف ابنه ورفاقه ثم ذبحه.
لم نشاهد الجريمة على الهواء، ربما لأن أحداً لم يصورها بهاتفه، وإلا لكانت كل القنوات عرضتها، لكننا شاهدنا جثة حسين الحجيري مرمية فوق ضريح الجندي محمد حمية. هل انتهت المأساة السريالية هنا؟ كلا. أصرّت بداية قناة "الجديد" على نقل الانحدار الأخلاقي إلى مستوى جديد: أطلّت مراسلة القناة راشيل كرم (التي تنفّذ بطبيعة الحال تعليمات إدارية) في مقابلة "حصرية حصرية" (مرتين) مع القاتل؛ أي معروف حمية. طيب هل انتهينا هنا؟ أيضاً كلا. الحوار الذي أجرته كرم مع حمية بدا أقرب إلى مشهد تمثيلي من الدراما اللبنانية الرديئة: "المراسلة: بتشوف حضرتك فرق بالقتل؟
القاتل: في فرق أنا ما بنكّل وبقطع الجثة
المراسلة: مرتاح؟ وأنت لابس نفس القميص يوم مات محمد ويوم أخذت بثأره؟
القاتل: مش مقصودة
المراسلة: شفت ابنك بالمنام وقلك خدلي بثأري؟"... لتصل السريالية إلى قمتها في نهاية اللقاء، فتقول كرم لحمية: "أريد أن أشكرك... شكراً شكراً جزيلاً".
ما لم تقله كرم هو أن كل هذه الحفاوة في الشكر، هي لحصولها على "سبق صحافي" يجعل مؤسستها فخورة بجهدها في عملها. ظنّ المشاهد للحظة أننا أدركنا القاع. لكن لا، أصرّت باقي القنوات على الانحدار إلى المستوى نفسه من الانتحار المهني. MTV أرسلت رسالة إلى كل الهواتف تعرض فيها سبقها الصحافي الخاص: "الـMTV تنفرد بمناظرة بين والد الشهيد محمد حمية ووالد المغدور حسين الحجيري... التفاصيل في نشرة الثامنة".
ماذا فعلت باقي القنوات؟ وقفت على الحياد أو هكذا ظنّت: LBCI أجرت اتصالا هاتفيا مع والد الحجيري، ثمّ توجّهت عبر جرود البقاع لتصل إلى منزل معروف حمية، وتفتح له أيضاً الهواء. يبرّر جريمته. يدخن سيجارته بهدوء، ويستكمل التبرير، وسط هزّ رأس المراسلة ندى اندراوس عزيز، ومن دون أي مقاطعة.
عندما خرج الجنود اللبنانيون الذين اختطفتهم جبهة النصرة إلى الحرية، صرّح أحد العسكريين المخطوفين أن "جبهة النصرة عاملتنا بشكل جيّد"، فانطلقت وقتها حملات إعلامية ضدّه، كانت بطلتها مراسلة "الجديد" (وقتذاك) حليمة طبيعة، متهمة إياه بالتعاطف مع "الأشرار". يوم أمس كان التعاطف مع معروف حمية في أوجّه. يوم أمس كان معروف حمية هو الشرير... هو القاتل، وكان الهواء المحلي مفتوحاً له للتبرير والمفاخرة. يوم أمس كان هواء الإعلام اللبناني ملوثاً بدماء الشهيد محمد حمية، وبدماء الشهيد حسين الحجيري، دماء لم تنجح بالتغطية على رداءة الإعلام المحلي ولا انهياره الأخلاقي نحو قاع لا ينتهي.
اقــرأ أيضاً
كان القتل بصيغته الفجة جديداً على الشاشات اللبنانية. القتل الذي يظهر فيه القاتل ويتباهى بجريمته وسط تعاطف يقوم على شدّ العصب اللبناني بوجه "غريب قتل أطفالاً من القرية". وحدها جثث الشهداء الذين قتلهم الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان كانت تظهر. وهي جثث عليها ما يشبه الإجماع الوطني. القاتل عدوّ، والمقتول مواطن لبناني. أما كترمايا فافتتحت عصراً جديداً، من "تلفزيون الواقع" الذي يظهر فيه القاتل والمقتول. يطل القاتل على الهواء ويفاخر بجريمته من دون خوف، ووسط حماية سياسية وطائفية.
يوم أمس عدنا إلى مربّع كترمايا. فقد الإعلام اللبناني صوابه فجأة، بعد جريمة قتل الشاب حسين الحجيري من قبل معروف حمية، والد الجندي الشهيد محمد حمية الذي أعدمته "جبهة النصرة". قرّر الوالد الانتقام لابنه بقتل بريء تهمته الوحيدة صلة القرابة بينه وبين من يتهمه الأب بخطف ابنه ورفاقه ثم ذبحه.
لم نشاهد الجريمة على الهواء، ربما لأن أحداً لم يصورها بهاتفه، وإلا لكانت كل القنوات عرضتها، لكننا شاهدنا جثة حسين الحجيري مرمية فوق ضريح الجندي محمد حمية. هل انتهت المأساة السريالية هنا؟ كلا. أصرّت بداية قناة "الجديد" على نقل الانحدار الأخلاقي إلى مستوى جديد: أطلّت مراسلة القناة راشيل كرم (التي تنفّذ بطبيعة الحال تعليمات إدارية) في مقابلة "حصرية حصرية" (مرتين) مع القاتل؛ أي معروف حمية. طيب هل انتهينا هنا؟ أيضاً كلا. الحوار الذي أجرته كرم مع حمية بدا أقرب إلى مشهد تمثيلي من الدراما اللبنانية الرديئة: "المراسلة: بتشوف حضرتك فرق بالقتل؟
القاتل: في فرق أنا ما بنكّل وبقطع الجثة
المراسلة: مرتاح؟ وأنت لابس نفس القميص يوم مات محمد ويوم أخذت بثأره؟
القاتل: مش مقصودة
المراسلة: شفت ابنك بالمنام وقلك خدلي بثأري؟"... لتصل السريالية إلى قمتها في نهاية اللقاء، فتقول كرم لحمية: "أريد أن أشكرك... شكراً شكراً جزيلاً".
ما لم تقله كرم هو أن كل هذه الحفاوة في الشكر، هي لحصولها على "سبق صحافي" يجعل مؤسستها فخورة بجهدها في عملها. ظنّ المشاهد للحظة أننا أدركنا القاع. لكن لا، أصرّت باقي القنوات على الانحدار إلى المستوى نفسه من الانتحار المهني. MTV أرسلت رسالة إلى كل الهواتف تعرض فيها سبقها الصحافي الخاص: "الـMTV تنفرد بمناظرة بين والد الشهيد محمد حمية ووالد المغدور حسين الحجيري... التفاصيل في نشرة الثامنة".
ماذا فعلت باقي القنوات؟ وقفت على الحياد أو هكذا ظنّت: LBCI أجرت اتصالا هاتفيا مع والد الحجيري، ثمّ توجّهت عبر جرود البقاع لتصل إلى منزل معروف حمية، وتفتح له أيضاً الهواء. يبرّر جريمته. يدخن سيجارته بهدوء، ويستكمل التبرير، وسط هزّ رأس المراسلة ندى اندراوس عزيز، ومن دون أي مقاطعة.
Facebook Post |
عندما خرج الجنود اللبنانيون الذين اختطفتهم جبهة النصرة إلى الحرية، صرّح أحد العسكريين المخطوفين أن "جبهة النصرة عاملتنا بشكل جيّد"، فانطلقت وقتها حملات إعلامية ضدّه، كانت بطلتها مراسلة "الجديد" (وقتذاك) حليمة طبيعة، متهمة إياه بالتعاطف مع "الأشرار". يوم أمس كان التعاطف مع معروف حمية في أوجّه. يوم أمس كان معروف حمية هو الشرير... هو القاتل، وكان الهواء المحلي مفتوحاً له للتبرير والمفاخرة. يوم أمس كان هواء الإعلام اللبناني ملوثاً بدماء الشهيد محمد حمية، وبدماء الشهيد حسين الحجيري، دماء لم تنجح بالتغطية على رداءة الإعلام المحلي ولا انهياره الأخلاقي نحو قاع لا ينتهي.