الإفلاس السياسي.. ونبش التاريخ

13 سبتمبر 2019
+ الخط -
يسود توتر، منذ أكثر من أسبوعين، يكاد أن يتحول إلى مواجهة مفتوحة بين لبنان وإسرائيل من جرّاء التصعيد الجوي الذي يمارسه الجيش الإسرائيلي، عبر غاراته على مواقع لحزب الله في دمشق، أو بطائراتٍ مسيّرة تستهدف مواقع له داخل العاصمة اللبنانية. وفيما يحتدم السجال حول ما إذا كان يحق لحزب الله أن يقرّر هو الرد وكيف، أم أن القرار يجب أن يكون فقط بيد الدولة التي تملك وحدها حصرية السلاح ووجهة استعماله، عملا بمقتضيات الدستور، وليس تغطية ما يقوم به حزب الله، إذ برئيس الجمهورية، ميشال عون، يفاجئ اللبنانيين بنبش التاريخ وبالعودة خمسمائة سنة إلى الوراء، ليشن هجوما على الدولة العثمانية، واصفا ما كانت تمارسه من عنف وقمع بـ"إرهاب الدولة" مؤجّجا نار الطائفية، ومثيرا غضب الدولة التركية الحالية التي اعتبرت، أيضا وبشكل مفاجئ، إنها هي المستهدفة! 
يقول المثل الشعبي: "حاوَل أن يكحّلها فعماها"، فهل تقصد عون استفزاز تركيا ولماذا؟ مناسبة الكلام هي إطلاق برنامج الاحتفالات بمئويّةِ "لبنان الكبير" (1920 - 2020)، إذ قال عون إن "كلَّ محاولات التحرّر من النِير العُثماني كانت تقابَل بالعنفِ والقتل وإذكاءِ الفِتن الطائفيّة، وإنَّ إرهابَ الدولةِ الذي مارسه العُثمانيّون على اللبنانيّين، خاصّةً خلال الحربِ العالميّةِ الأولى، أوْدى بمئاتِ آلافِ الضحايا، ما بين المجاعةِ والتجنيدِ والسُّخْرة". علما أنه كان قد استقبل قبل نحو شهر وزير الخارجية التركي، الذي كان في زيارة رسمية للبنان، كما أن العلاقات مع تركيا جيدة في مختلف المجالات. إنه على الأرجح لم يكن يتوقع أن يعتبر أردوغان نفسه خليفة الدولة العثمانية، بدل أن يكون استمرارا لدولة أتاتورك التي أنهت الحكم العثماني. ولم يكن أيضا يتوقع أن يؤدي كلامه إلى تماهٍ بين بعض المسلمين من الطائفة السنية والحكومة التركية، الذين احتجوا واعتبروا كلامه يشكل إهانة لأهل السنة، وفيه تجنّ على الدولة العثمانية التي لم تسئ في نظرهم للمسيحيين أيام السلطنة، لا بل ميّزتهم في الأدوار والمناصب عن المسلمين. يعود احتجاجهم أيضا إلى أنهم رأوا في كلام عون تمييزا بين احتلال واحتلال، إذ لم يعتبر الانتداب الفرنسي احتلالا، ولم يستعمل العبارات نفسها التي وصف بها "الاستعمار التركي".
وقد احتجت الحكومة التركية، واستدعت السفير اللبناني طالبة إيضاحات، فرد العونيون أنصار الرئيس بمظاهرة احتجاج أمام السفارة التركية في بيروت، رافعين يافطةً كتب عليها "انضبوا". وهذه مفردة تعكس، في المقابل، تماهي العونيين، وإعجابهم بالأمين العام لحزب الله، حسن 
نصرالله، الذي استعمل العبارة نفسها، مخاطبا الإسرائيليين بعد حادثة "إنزال" الطائرتين الإسرائيليتين المسيّرتين قبل أكثر من أسبوعين فوق معقل الحزب في الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية. غير أن احتجاج السنة من علمانيين ورجال دين مردّه الأعمق يعود إلى أسبابٍ لها علاقة بتركيبة السلطة الحالية في لبنان، وللتحالفات القائمة التي تعكس، في بعض جوانبها، صراعا مذهبيا لم يعد مخفيا. فقد أكدت التسوية التي حملت، قبل ثلاث سنوات، عون إلى رئاسة الجمهورية، مع الوقت، أن عمادها هو الثنائي الشيعي - الماروني الذي يجسده حزب الله والتيار العوني. أما دور رئيس الحكومة سعد الحريري (السني) فهامشي فيها، إن على المستوى السياسة الداخلية، وسعي عون المستمر إلى الاستئثار بالقرار خلافا للدستور، أم على المستويين، الخارجي والإقليمي الذي يمسك به نصرالله بإحكام، كما يحصل هذه الأيام أيضا خلافا للدستور. وهذا ما يثير إحباطا لدى السنة، ونوعا من الاستياء تجاه من يمثلهم في السلطة، أي الحريري المغلوب على أمره. من هنا، تأخذ حركة الاحتجاج ضد كلام رئيس الجمهورية عن "إرهاب الدولة" أيضا نفسا ومنحى مذهبيا، يجد ضالته في "الاحتماء" بالدولة التركية التي يجسدها اليوم الرئيس أردوغان. وهذا لا يعني، بطبيعة الحال، أن الحكم العثماني لم يكن جائرا وتعسفيا وظالما، إلا أن اللافت والمستغرب في مقاربة عون هو استعماله "الإرهاب" مصطلحا حديثا ليس هناك بعد من إجماع على تحديد مفهوم دقيق له، لكي يوصف به قمع السلطنة العثمانية التي كانت قائمة قبل خمسمائة سنة!
لم تكن كل هذه الوقائع والاعتبارات واردةً في حسابات عون ولم يتوقف عندها، على الرغم مما أثارته من سجال واعتراضات. ما ساقه في كلامه متعدّد الغايات والأهداف، انطلاقا من دوره وموقعه وتموضعه السياسي، فقد أصاب "مجموعة عصافير بحجر واحد"، فهو غير معني، بطبيعة الحال، بدراسة تلك المرحلة الهامة من تاريخ لبنان والمنطقة وتحليلها، ولا التأريخ لها. وكونه يشكل جزءا مما يعرف بـ"محور الممانعة" في المنطقة إلى جانب حزب الله وإيران والنظام السوري، فهو أعلن انحيازه إلى جانب هذا المحور، على الرغم من الضغوط الأميركية المتزايدة، وسجل أول هدف في مرمى أردوغان خصم الأسد، وأصاب على طريقة لعبة البلياردو سنّة لبنان (وحتى الحليف الحريري) والمنطقة الذين يتعاطى معهم مرغما، بدافع الظروف والحسابات الشخصية الضيقة، فعلاقاته اليوم فاترة، إذا لم نقل إنها سيئة، مع السعودية ومصر وبعض دول الخليج، وهو كان دائما منحازا إلى جانب النظام السوري، بطريقة معلنة أو مواربة. وقال إنه مع الأسد في استعادة محافظة إدلب، تماما كما فعل خلال معركة استعادة السيطرة على حلب في ربيع 2016. كما أنه أكد عمليا على ترك قرار الحرب والسلم بيد حزب الله، وتغطيته ردود الحزب على الاعتداءات الإسرائيلية أخيرا، بعيدا عن أي قرار حكومي رسمي، علما أنه عندما قرّر نصر الله الذهاب إلى القتال في سورية، دفاعا عن النظام الأسدي، لم يستأذن الدولة، ولم يحصل على موافقة الحكومة اللبنانية. وأمس في ذكرى عاشوراء، يعلن نصر الله، بالفم الملآن، إنه سينخرط في أي حرب دفاعا عن إيران، كما ويعلن ولاءه لـ"قائدي وسيدي ومولاي الخامنئي".
أما الهدف الأهم والأبعد نسبيا فهو تعبيد طريق الرئاسة (في العام 2022) لصهره جبران باسيل الذي ورث عنه رئاسة التيار العوني بالتزكية، وأعيدت مبايعته مرة ثانية الأسبوع 
الماضي، بعد حصول مجموعة أحداث وتطورات داخلية وخارجية، أثرت على حظوظ الصهر وأجبرته على الانكفاء ولو مؤقتا، أبرزها حادثة قبرشمون في الجبل، ودخول واشنطن على خط دعم وليد جنبلاط، خصم العونيين. ما فعله عون هو تسليف حزب الله إقليميا مقابل جسّ نبضه داخليا لإحراجه، والتأكد من مدى التزامه معركة إيصال الصهر إلى القصر الجمهوري. وبما أن عون (ومن حوله) يخوض كل المعارك الكبيرة والصغيرة، فإن "الخطوة الاستفزازية التركية" في الحسابات الداخلية المحلية لها مردود ثمين في أي انتخابات برلمانية قادمة من أجل ضمان ولاء القيادات الأرمنية التي ما زالت تكن كل العداء للسلطنة التركية الغابرة، وللحكم التركي الحالي، وبالتالي كسب أصوات الأرمن الكثيفة والحاسمة في معارك دوائر جبل لبنان المقبلة.
يمكن القول مما تقدّم إن الماكيافيلية اللبنانية قد تفوقت على ماكيافيلي نفسه، أو أيضا الاستشهاد بالمثل الشعبي القائل: "بعد حماري ما ينبت حشيش".

5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.