09 نوفمبر 2024
الإمارات.. العسس والجوسسة
كلاسيكياً وتقليدياً، وظيفة جهاز المخابرات في أي دولةٍ جمع المعلومات عن العدو، وبكيفياتٍ متعدّدة. واتكاءً على هذه البديهية، فإن دولة الإمارات تنظر إلى جارتها دولة قطر عدوّا. الشواهد على هذه الحقيقة كثيرة، من جديد ما انكشف منها إنفاقُ أبوظبي ملايين الدولارات من أجل شراء برامج إلكترونية، تتجسّس بها، منذ أربعة أعوام، على هواتف ذكية لـ 159 من أفراد العائلة الحاكمة في قطر، ونجاحُها في اختراق هواتف 13 منهم، بحسب التحقيق الاستقصائي المثير الذي نشرته أخيرا صحيفة نيويورك تايمز، وأفاد بأن أبوظبي، في فعلتها هذه، حاولت التنصّت على هاتف أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني. وهنا سؤالان غايةٌ في البساطة والعادية: ما الذي بالضبط يريد الحاكمون في أبوظبي أن يعرفوه في قطر؟ لماذا تشكّل الدوحة في أفهامهم ومخيّلاتهم مشكلةً كبرى؟ اتهموها بدعم الإرهاب، من دون أن يُشهروا قرينةً تؤشر إلى صدقيّة زعمهم هذا، طلب منهم أمير الكويت، الشيخ صباح الأحمد، أيَّ دليلٍ على ذلك، في أولى أيام وساطته من أجل حل الأزمة إياها التي افتعلوها، ومعهم نظراؤهم في الرياض، وما زال ينتظر.
وعندما توضح الصحيفة الأميركية، ذات الموثوقية العالية، وبالبيّنات المؤكّدة، أن أبوظبي اشترت برامج التجسّس المتقدّمة من شركةٍ إسرائيلية، تأذَن وزارة الحرب لها بيعَ ما تبيعُه، وذلك كله للتجسّس على سياسيين وإعلاميين ومثقفين وناشطين كثيرين، في الإمارات نفسِها، وفي غير بلدٍ عربي، فذلك يدلّ على أن العقل الحاكم هناك مأزومٌ جدا، مرتعشٌ، مرتابٌ بالقريب والبعيد، يعوزُه الاطمئنان، ويقيمُ في الخوف، فتضطرّه حالُه هذه إلى الاستعانة بإسرائيل، من دون حياء، أو حاجةٍ لستر هذه العورة المنكشفة، وذلك كله من أجل البصبصة على ما تتحسّب منه، وتظنّها أسرارا، فيما لا أحد في باله من العرب، في قطر وفي غيرها، إيذاء الإمارات وشعبها وأمنها بشيء، والجميع يدعو لهذا البلد، كما لكل أرضٍ عربية، بالأمان وهناءة البال. ولا يتزيّد واحدُنا في القول إن كثيرين ممن استهدفتهم مخابرات أبوظبي بما صار لديها من برامج إسرائيلية للتجسّس (أو الجوسسة؟) كانوا سيُخبرون "نيويورك تايمز" بما أبلغها به الأمير السعودي، متعب بن عبد الله، لمّا استهجن تلصّص عسس محمد بن زايد، بتكنولوجيا إسرائيلية، على هواتفه، إنه كان سيُخبر هؤلاء عمّا يريدون، ويكفيهم هذا العناء، بل والخزي الذي ليس مؤكّدا ما إذا كان غشيهم أم لا، لمّا فضحت الصحيفة الأميركية الطابق كله، وأضاءت على كثيرٍ مما كان قليلُه معروفا.
ثمّة اعتداءٌ ظاهرٌ على مواطن سعودي بمنزلة أمير، ترتكبُه أبوظبي في تلصّصّها هذا، يوحي باستخفافٍ وتعالٍ لدى من أمروا به، لا على الرجل ومكانته فحسب، وإنما أيضا على بلدِه، ما يذكّر، على نحوٍ ما، بسخرية سفير الإمارات في واشنطن، يوسف العتيبة، من ملوك العربية السعودية وأمرائها، لأنهم "يحرّمون بيع الورد في عيد الحب"، كما كتب إلى زميلةٍ له دبلوماسية، في واحدةٍ من رسائله التي ذاعت مضامينُها، قبل شهور، ودلّت، كما شواهد دالّةٌ أخرى، على مقادير مهولةٍ من رداءة الأوهام الإمبراطورية التي تستحكم في مدارك هذا الشاب، وتستوطن في أخيلة المسؤولين عنه في أبوظبي، عندما يُنفقون من دون حسابٍ على أتباعٍ ومليشيات فالتةٍ في ليبيا، وعلى سجونٍ في اليمن، وعندما يستهويهم احتلال موانئ وسواحل في غير بلد، وعندما يتشاطرون على بلدٍ مفقر اسمه الصومال، فيعاقبون ناسَه بإغلاق مستشفى يحمل اسم الشيخ زايد في مقديشو، وأيضا عندما يُغدقون على خليفة حفتر وعلى مشاريع عبد الفتاح السيسي وعلى انفصاليين في عدن، ولأن الحاجة للمال لا تتوقف من أجل هؤلاء وغيرهم، يتم الإجهاز على مهرجاني أبوظبي ودبي للسينما (!).
يبلع سعد الحريري لسانَه، فلا يجرؤ على التغريد مثلا بشأن تجسّس أصدقائه في أبوظبي على هاتفه. ويُؤثر العاملون في البلاط السعودي التعامي عن القصة كلها، وهو ما تفعله تلفزاتٌ وصحفٌ ومواقع إلكترونية غزيرة تتبع أبوظبي وحواشيها، لا تأتي أيٌّ من هذه بكلمةٍ بشأن ما أشهرته "نيويورك تايمز". أعان الله هؤلاء جميعهم، وأشباهَهم وأشباحهم، يشغلهم نشر التنوير وتجديد الخطاب الديني عن سفالة فضيحةٍ مُخزية، قدّام عيونهم الحولاء.. وقدّامنا صحّت عيونُنا.