05 يونيو 2017
الإمبراطورية الأميركية وحدود القوة
فتح الهجوم الأميركي على مطار الشعيرات في سورية البابَ أمام نقاشٍ حول تغيير السلوك الأميركي في سورية والمنطقة، وقيادة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، نهجاً جديداً أكثر حزماً وإقداماً من نهج سلفه باراك أوباما. انقسم الموالون للإمبراطورية الأميركية وعشّاق تدخلاتها في منطقتنا العربية، إثر هجوم الشعيرات، بين مؤيدين له، يحتفلون بجرأة الرئيس ترامب، وبداية عهدٍ جديد في السلوك الأميركي تجاه المنطقة، ومؤيدين للهجوم، يتحفظون في احتفالهم، ويرى بعض "حكمائهم" أن الضربة العسكرية لا تكفي للدلالة على تغيير حقيقي، خصوصا إذا لم تتبعها ضربات أخرى.
يتفق الطرفان على توقهما لسياسات أميركية هجومية، واشتياقهما لعهد الرئيس جورج بوش الابن، والمحافظين الجدد، كما يتفقان على تقييم سلبي لإدارة الرئيس أوباما، ويتهمونها بالتخاذل، وحتى التواطؤ، مع إيران وحلفائها في المنطقة، ويعتبرون أن سياسات أوباما أضرّت بجبهتهم، وبهيبة أميركا بوصفها "قائدة العالم الحر".
لم يكن أوباما متخاذلاً، لكنه اعتمد سياسة الاحتواء لخصوم أميركا، والتدخلات المحسوبة لتقليل الكُلَف المادية والبشرية، وهذه السياسة هي نتيجة مباشرة لإخفاق مغامرات بوش وغزواته، إذ اكتشفت الإمبراطورية الأميركية مع إخفاقات بوش حدود القوة، وبات ضرورياً التراجع جزئياً، وإعادة تفعيل أدواتٍ مختلفة للحفاظ على الهيمنة. أحجم أوباما عن التدخل العسكري المباشر في مواجهة النظام السوري، لكنه لم يغب عن جهود تمويل المعارضة السورية وتسليحها، بالشراكة مع حلفاء أميركا في المنطقة، كما أن طائراته قدّمت العمل الأبرز في توفير غطاء جوي لمقاتلي المعارضة الليبية، ضد نظام القذافي، وهذه الطائرات توجهت إلى قصف تنظيم داعش في العراق وسورية، ومعها قوات خاصة بمهام محدّدة، حين شعر أوباما بخطر التنظيم، وأراد
تطويقه واحتواءه. الضغوط الدبلوماسية، وسلاح الجو، والاعتماد على مجموعاتٍ محليةٍ، يتم تمويلها وتدريبها لخوض الحروب بالوكالة، هي وصفة أوباما لتقليل كلفة التدخلات، وقد أنتجت حروباً أهلية، واستنزافاً أقل لأميركا، في مقابل استنزاف قوى أخرى إقليمية ودولية.
لكن هذه السياسات لم تقنع المعتمدين على أميركا عندنا، وهم يأملون بتدخلاتٍ أميركية مباشرة، وقد أحيا ترامب آمالهم بضربه مطار الشعيرات. تتعدد التحليلات للضربة الأميركية. لكن، من الممكن وضعها في سياق الضغط الذي تمارسه المؤسسة والإعلام الأميركي على ترامب، كي لا يتسبب في مزيد من التراجع الأميركي لصالح الروس، وظهر هذا في اتهام مسؤولين في إدارة ترامب بالتواصل مع روسيا، واتهامه هو بأنه أداة طيّعة بيد الرئيس الروسي بوتين، واستغل الإعلام الأميركي، والغربي عموما، حادثة خان شيخون، في محاولة استفزاز نرجسية ترامب وصلفه.
تبدو الضربة هنا محاولةً لامتصاص الضغوط، وقد أثمرت احتفالاً لأول مرة بترامب في الإعلام الأميركي، من محافظيه وليبرالييه على السواء، الراغبين جميعاً في الحفاظ على النهج الإمبريالي للامبراطورية، كما كانت مناسبةً ليثبت ترامب جرأته مقابل أوباما.
يمكن وضع الضربة ودوافعها أيضاً في سياق مستمر، يتعلق بتثبيت الوجود الأميركي في شرق سورية، ووقف اندفاعة النظام هناك، خصوصا بعد الإنزال الأميركي في مطار الطبقة. طبعاً هذا العمل الأميركي في الشرق مستمر منذ عهد أوباما، وكذلك العمل ضد القاعدة في اليمن، وتنظيم داعش في العراق وسورية، وربما تكون هذه الضربة بدوافع متعدّدة، منها ما يتعلق بالخطة الأميركية في شرق سورية، وما يتصل بالتنافضات الأميركية الداخلية، بين الرئيس والمؤسسة، إضافة إلى اندفاعةٍ ما عند الفريق العسكري للرئيس ترامب نحو استعراض القوة.
قد تؤثر شخصية ترامب الحادة، وتقلباته، على السياسة الخارجية الأميركية، مثل تأثير حسابات المصالح الأميركية، وهو أمرٌ ليس جديداً في السياسة الأميركية، إذ لم تكن تُدَار دائماً بشكل عقلاني، لكن ترامب لم يذهب بالمغامرة إلى حدودها القصوى بعد. وعلى الرغم من أنه تصرف منفرداً من دون الرجوع إلى مجلس الأمن، لكن هذا التصرف لم يكن مثل غزو العراق عام 2003، وإنما ضربة محدّدة.
كذلك، لم يُظْهِر ترامب انقلاباً كاملاً على شعاراته الانكفائية، لكن نزاعه مع المؤسسة يقلل من قدرته على تطبيقها، ما يجعل الأمور حتى الآن تراوح تقريباً في مستوى تدخلية أوباما. يخضع السلوك الأميركي لتوازنات القوى القائمة في العالم، ولحسابات الأرباح والخسائر، وأي مغامرة من ترامب ستعيد اكتشاف حدود القوة الأميركية مجدّداً، ليكتشف عرب الإمبراطورية الأميركية أنها ليست قادرة على فعل كل شيء ببساطة، وأن القضية ليست في أنها لا تريد التدخل هنا أو هناك، بل إنها لا تقدر.
نعايش مخاضاً لتشكُّل نظام إقليمي جديد، ونظامٍ دولي جديد أيضاً، وهذا يعني أن الأحادية القطبية في طريقها إلى النهاية، وحرية التصرف الأميركية في العالم تتراجع، لكن أميركا تبقى اللاعب الدولي الأقوى بين مجموعة اللاعبين الكبار، وفي رد الفعلين، الصيني والروسي، على الهجوم الأميركي، ما يشير إلى حجم المبالغات في تعظيم قوة الطرفين مقابل أميركا.
يبقى القول إن هذا التعلق بعودة نهج بوش التدخلي يشي بعجزٍ وفشلٍ كبيرين، ولا داعي للقول إن الاعتقاد بقدرة هذا النهج على إيجاد حلول ينطوي على سذاجة كبيرة، بالنظر إلى حجم الكوارث التي تسبب بها على كل صعيد.
يتفق الطرفان على توقهما لسياسات أميركية هجومية، واشتياقهما لعهد الرئيس جورج بوش الابن، والمحافظين الجدد، كما يتفقان على تقييم سلبي لإدارة الرئيس أوباما، ويتهمونها بالتخاذل، وحتى التواطؤ، مع إيران وحلفائها في المنطقة، ويعتبرون أن سياسات أوباما أضرّت بجبهتهم، وبهيبة أميركا بوصفها "قائدة العالم الحر".
لم يكن أوباما متخاذلاً، لكنه اعتمد سياسة الاحتواء لخصوم أميركا، والتدخلات المحسوبة لتقليل الكُلَف المادية والبشرية، وهذه السياسة هي نتيجة مباشرة لإخفاق مغامرات بوش وغزواته، إذ اكتشفت الإمبراطورية الأميركية مع إخفاقات بوش حدود القوة، وبات ضرورياً التراجع جزئياً، وإعادة تفعيل أدواتٍ مختلفة للحفاظ على الهيمنة. أحجم أوباما عن التدخل العسكري المباشر في مواجهة النظام السوري، لكنه لم يغب عن جهود تمويل المعارضة السورية وتسليحها، بالشراكة مع حلفاء أميركا في المنطقة، كما أن طائراته قدّمت العمل الأبرز في توفير غطاء جوي لمقاتلي المعارضة الليبية، ضد نظام القذافي، وهذه الطائرات توجهت إلى قصف تنظيم داعش في العراق وسورية، ومعها قوات خاصة بمهام محدّدة، حين شعر أوباما بخطر التنظيم، وأراد
لكن هذه السياسات لم تقنع المعتمدين على أميركا عندنا، وهم يأملون بتدخلاتٍ أميركية مباشرة، وقد أحيا ترامب آمالهم بضربه مطار الشعيرات. تتعدد التحليلات للضربة الأميركية. لكن، من الممكن وضعها في سياق الضغط الذي تمارسه المؤسسة والإعلام الأميركي على ترامب، كي لا يتسبب في مزيد من التراجع الأميركي لصالح الروس، وظهر هذا في اتهام مسؤولين في إدارة ترامب بالتواصل مع روسيا، واتهامه هو بأنه أداة طيّعة بيد الرئيس الروسي بوتين، واستغل الإعلام الأميركي، والغربي عموما، حادثة خان شيخون، في محاولة استفزاز نرجسية ترامب وصلفه.
تبدو الضربة هنا محاولةً لامتصاص الضغوط، وقد أثمرت احتفالاً لأول مرة بترامب في الإعلام الأميركي، من محافظيه وليبرالييه على السواء، الراغبين جميعاً في الحفاظ على النهج الإمبريالي للامبراطورية، كما كانت مناسبةً ليثبت ترامب جرأته مقابل أوباما.
يمكن وضع الضربة ودوافعها أيضاً في سياق مستمر، يتعلق بتثبيت الوجود الأميركي في شرق سورية، ووقف اندفاعة النظام هناك، خصوصا بعد الإنزال الأميركي في مطار الطبقة. طبعاً هذا العمل الأميركي في الشرق مستمر منذ عهد أوباما، وكذلك العمل ضد القاعدة في اليمن، وتنظيم داعش في العراق وسورية، وربما تكون هذه الضربة بدوافع متعدّدة، منها ما يتعلق بالخطة الأميركية في شرق سورية، وما يتصل بالتنافضات الأميركية الداخلية، بين الرئيس والمؤسسة، إضافة إلى اندفاعةٍ ما عند الفريق العسكري للرئيس ترامب نحو استعراض القوة.
قد تؤثر شخصية ترامب الحادة، وتقلباته، على السياسة الخارجية الأميركية، مثل تأثير حسابات المصالح الأميركية، وهو أمرٌ ليس جديداً في السياسة الأميركية، إذ لم تكن تُدَار دائماً بشكل عقلاني، لكن ترامب لم يذهب بالمغامرة إلى حدودها القصوى بعد. وعلى الرغم من أنه تصرف منفرداً من دون الرجوع إلى مجلس الأمن، لكن هذا التصرف لم يكن مثل غزو العراق عام 2003، وإنما ضربة محدّدة.
كذلك، لم يُظْهِر ترامب انقلاباً كاملاً على شعاراته الانكفائية، لكن نزاعه مع المؤسسة يقلل من قدرته على تطبيقها، ما يجعل الأمور حتى الآن تراوح تقريباً في مستوى تدخلية أوباما. يخضع السلوك الأميركي لتوازنات القوى القائمة في العالم، ولحسابات الأرباح والخسائر، وأي مغامرة من ترامب ستعيد اكتشاف حدود القوة الأميركية مجدّداً، ليكتشف عرب الإمبراطورية الأميركية أنها ليست قادرة على فعل كل شيء ببساطة، وأن القضية ليست في أنها لا تريد التدخل هنا أو هناك، بل إنها لا تقدر.
نعايش مخاضاً لتشكُّل نظام إقليمي جديد، ونظامٍ دولي جديد أيضاً، وهذا يعني أن الأحادية القطبية في طريقها إلى النهاية، وحرية التصرف الأميركية في العالم تتراجع، لكن أميركا تبقى اللاعب الدولي الأقوى بين مجموعة اللاعبين الكبار، وفي رد الفعلين، الصيني والروسي، على الهجوم الأميركي، ما يشير إلى حجم المبالغات في تعظيم قوة الطرفين مقابل أميركا.
يبقى القول إن هذا التعلق بعودة نهج بوش التدخلي يشي بعجزٍ وفشلٍ كبيرين، ولا داعي للقول إن الاعتقاد بقدرة هذا النهج على إيجاد حلول ينطوي على سذاجة كبيرة، بالنظر إلى حجم الكوارث التي تسبب بها على كل صعيد.