رغم أن أوروبا تعيش، في الظاهر، سباقا بين وقف تفشي وباء كورونا الجديد وإيجاد لقاح يفرمل الموت الزاحف إلى مدنها، إلا أن القارة تعيش أيضا ظروفا قاسية، وتكاد تكسر منحنى اقتصادها إلى مستوى ينفرط فيه عقد التماسك، وينحدر اليورو إلى مستويات أدنى من مستوى أزمة الاقتصاد العالمية التي شهدها العالم في العام 2008.
ويقدم خبراء، مثل معهد ايفو للاقتصاد في ألمانيا، توقعات متشائمة، عن أن استمرار الإغلاق لأشهر ربما يؤدي إلى بطالة 2 مليون أوروبي.
وتحاول الدول من خلال حزم إسعاف اقتصادي تجنب انهيار شركات صغيرة ومتوسطة، وكساد عظيم في أسواقها، حيث ضخ البنك المركزي الأوروبي 750 مليار يورو لتجنب الانهيارات.
ويرى يسبر رانغفيد أستاذ الاقتصاد في كلية الأعمال في كوبنهاغن، أن أوروبا تعيش "أزمة عنيفة جدا على المستوى الاقتصادي تفوق ما واجهه العالم في أزمة 2008 (الأزمة المالية العالمية)".
ورغم أن البعض لا يرى مشكلة في تضخم ديون بعض الدول الأوروبية، كإيطاليا واليونان، باعتبار أن اليابان "وصل دينها العام إلى 237 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي"، بحسب رانغفيد، فإن آخرين يتذرعون بارتفاع التضخم وديون إيطاليا كسبب لعدم الاستجابة لمطالبها بالمساعدة العاجلة لكي تستطيع مساعدة شعبها واقتصادها.
وينظر خبراء وحكومات إلى التمنع الأوروبي عن مد اليد لروما، على أنه تهديد جدي للاتحاد، حيث طالبت روما ومعها 8 من دول جنوب أوروبا بتفعيل آليات شراء البنك المركزي الأوروبي سندات والإفراج عن نحو 410 مليارات يورو من صندوق الطوارئ والأزمات، فيما تلقى تلك المطالب رفضا من دول الشمال.
شمال وجنوب
ليس خفيا أن سياسة الإغلاق الأوروبية بدأت تنعكس على الدول المأزومة وغير القادرة على تعويض شعبها، أو الحفاظ على الاقتصاد من الانهيار، وخصوصا انهيار اليورو، وبرفض متصلب من دول الشمال لإنقاذ دول الجنوب من عنق الزجاجة، بدأت تظهر مصطلحات أوروبية، يشير إليها خبراء ووسائل إعلام مختلفة، مثل "شمال-جنوب"، داخل القارة التي تحمل مشروع وحدة.
وفي الأسبوع الفائت دعت تسع من دول جنوب القارة، بما في ذلك إسبانيا وإيطاليا وفرنسا والبرتغال، الاتحاد الأوروبي، لإظهار تضامن وعمل مشترك لمواجهة الكوارث الاقتصادية المتوقعة، لكن الرفض بقي سيد الموقف، وخصوصا ألمانيا وهولندا ودولا شمالية أخرى.
أدى ذلك برئيس الحكومة الإيطالية، جوزيبي كونتي، للتعبير عن غضب غير مسبوق في قمة الخميس الماضي عبر الفيديو، وفقا لما نقل التلفزيون الدنماركي وعدد من الصحف الإيطالية.
ويذهب عالم السياسة الإيطالي البارز، روبرتو دي ألمونتي، إلى القول إنه "يجب ألا نخطئ بالاعتقاد أن فيروس كورونا لا يمكنه أن ينهي حياة الاتحاد الأوروبي، فنحن في أوقات حاسمة ويمكن أن تقتل فكرة الاتحاد كلها"، وفقا لما نقلته عنه صحيفة "إنفارماسيون" الدنماركية أمس الثلاثاء.
ويضيف ألمونتي أن ما سيحسم الأمر هو مراقبة "إذ ما أصرت الدول على مواجهة مأزقها لوحدها أو بشكل تضامني ومشترك، وهي نقطة سيعود إليها المؤرخون ليشرحوا لماذا انتهى الاتحاد الأوروبي إلى فشل أو نجاح كبير".
وفي اجتماعي كل من وزراء مالية منطقة اليورو يوم الثلاثاء الماضي، 24 مارس/آذار، وقادة دول الاتحاد الـ27 الخميس الماضي، 26 مارس/آذار، لم يتسن للدول الاتفاق على إستراتيجية معينة، رغم الخطاب الإعلامي "التضامني".
وعلى خلفية غياب تضامن دول أوروبا الشمالية مع الجنوبية، تحضر مسميات قديمة، بحسب وصف دير شبيغل الألمانية، كمجموعة دول الرابطة الهانزية، وهو تحالف اقتصادي شهدته أوروبا في القرن الثالث عشر، وضم إلى جانب ألمانيا، دول هولندا وفنلندا والبلطيق والدنمارك، وقد شهد التحالف صعودا وهبوطا.
ومع تردي وضع إيطاليا الاقتصادي، حيث تبلغ ديون البلد أكثر من 130 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، ومجالها المالي محدود، لا تستطع روما مساعدة مواطنيها، كما فعلت ألمانيا والدنمارك وغيرها من دول الشمال.
التبرير الذي تقدمه دول الشمال لرفضها ضخ مزيد من الأموال، على شكل سندات وديون مخفضة الفائدة، خوفها من تحمل منطقة اليورو لتلك الديون، على اعتبار أن دول الجنوب لن تكون قادرة على سدادها مستقبلا. مديرة البنك المركزي الأوروبي، كريستينا لاغارد، حاولت تهدئة الأسواق المالية بوعود بضخ 750 مليار يورو، ورغم ذلك تعترف لاغارد بأنه تصرف غير كاف.
ونقلت "دير شبيغل" و"دي فيلت" عن بروفسور الاقتصاد في جامعة هامبورغ، هاينز فلاسبيك، تأكيده أنه لا يمكن تجنب الأزمة التي خلقها كورونا للاقتصاد الأوروبي.
وينتقد فلاسبيك بشدة سياسة برلين ومنطقة اليورو وغياب التضامن "فبرلين وضعت برنامجاً خاصًا بالأزمات، يزيد بأربعة أضعاف مثيله في إيطاليا، التي لم تستطع تخصيص سوى 25 مليار يورو كبرنامج إسعافي مباشر في الأزمة، وهذا مبلغ سخيف نظرا إلى الحجم الهائل للأزمة".
ويشير فلاسبيك إلى برنامج الطوارئ الذي تبناه البنك المركزي الأوروبي(ECB) في مواجهة الجائحة التي تضرب القارة بقيمة 750 مليار يورو لشراء أصول وسندات، بما فيها إيطالية، معقبا "بيد أن المشكلة أنه مبلغ بالكاد ستتمكن دول الجنوب من الحصول على قروض تمكنها من مواجهة المصاعب، رغم أن الخطوة جيدة بشراء السندات ومنح القروض كوسيلة في مواجهة أزمة هائلة".
مستقبل قاتم للاتحاد
التقسيم الذي تعيشه القارة بين شمال وجنوب، وغياب إستراتيجية مواجهة اقتصادية جماعية لآثار الجائحة، وفشل اجتماع الاتحاد يوم الخميس الماضي، في وضع صيغ عمل مشتركة، كل ذلك دفع برئيس الحكومة الإيطالي، جوزيبي كونتي، إلى اعتبار أن "مشروع الاتحاد الأوروبي برمته سيفقد أسباب وجوده".
واعتبر كونتي، وفقا لصحف إيطالية، من بينها "لا ستامبا"، أن الوباء "يمكن أن يدمر الاقتصاد الأوروبي".
ومن جهته، انتقد رئيس وزراء إسبانيا، بيدرو سانشيز، غياب سياسة أوروبية مشتركة، ووفقا لتصريحات نقلتها عنه "إل باييس"، بعد فشل اجتماع الخميس.
وأبدى امتعاضا من سياسات برلين وأمستردام وفيينا وهلسنكي، الرافضة لما يطلق عليه "خطة مارشال" لإنقاذ وضع دول جنوب القارة.
واعتبر سانشيز أن "مستقبل المشروع الأوروبي على المحك، فإما الاختيار بين عمل منسق نقف فيه إلى جانب بعضنا، أو الفردية، حيث تواجه كل دولة مشكلتها وتحدياتها بمفردها".
وغير بعيد عنه، لم يستطع رئيس وزراء البرتغال، أنطونيو كوستا، كتم غضبه الخميس الماضي، فبحسب "إنفارماسيون" صب كوستا غضبه على هولندا ووزير ماليتها، فوبكي هويكسترا، المعارض لتقديم مساعدات لدول القارة الجنوبية، والذي صرح بأن "دول جنوب القارة لا تستطيع إدارة اقتصاداتها وتأمين نفسها من الأزمات".
واتفق كوستا مع سانشيز حول مستقبل الاتحاد الأوروبي بقوله إن "هذه التفاهات المتكررة تهدد مستقبل الاتحاد الأوروبي".
يتزامن خطاب "شمال وجنوب" مع خطاب سياسي يميني متشدد، متشكك بالأصل في المشروع الأوروبي، حيث أظهرت استطلاعات في مارس/آذار، نشرت نتائجها صحف إيطالية وأوروبية، أن 88 في المائة من الإيطاليين باتوا يرون عضوية بلادهم، ونتيجة أزمة كورونا الاقتصادية وسياسة هذا الاتحاد، عضوية بلا جدوى.
وفي السياق، يعتقد روبرتو دي ألمونتي أن الاتحاد أضاع فرصة كبيرة للظهور أمام الشعوب الأوروبية بأنه اتحاد يصنع فرقا، "وبدلا من ذلك كانت قيادات دول الاتحاد تعزل نفسها خلف حدود الدولة الوطنية".
ويرى هذا الخبير في الشأن الأوروبي أنه خلال الأسابيع القادمة "سيكون ملايين الأوروبيين أمام محاولة فهم ما إذا كان هذا الاتحاد سيستمر أم أن كل دولة ستبحر بمفردها في بحارها الخاصة بها".
إذاً، عودة خطاب تقسيم أوروبا بين شمال ثري وجنوب يعاني اقتصاديا، وهو الذي استخدم أيضا في أزمة اليورو السابقة في 2010، تساهم عمليا في تباعد دول القارة الأعضاء في الاتحاد، وليس فقط دول منطقة اليورو الـ19. ففي ذلك العام رفضت ألمانيا سياسات اقتصادية لإنقاذ اليونان من مأزقها المالي، وأصرت برلين على ضرورة احترام صارم لقواعد الميزانية الخاصة باليورو.
واليوم، لم يعد من الممكن إخفاء الانقسام الأوروبي، وإصرار الشمال على رفض مساعدة الدول الأشد تضررا، يعيد إلى الواجهة قول المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، في 2012 بأنه "لن تكون هناك تحت أي ظرف مسؤولية جماعية عن ديون الدول الأعضاء، طالما بقيت على قيد الحياة".
فالإشكالية الكبيرة، على مستوى مواجهة القارة لتداعيات كورونا، لم تعد فيما إذا كان سيقوم المركزي الأوروبي بشراء سندات دول تحتاج لمليارات لأجل ألا تنهار اقتصاديا، ولمساعدة شعوبها، بل أيضا في خطورة استغلال معسكر متأهب في أقصى اليمين المتطرف، كالبديل لأجل ألمانيا في برلين، حالة عدم الاستقرار لتسويق سردية التطرف القومي.
ومن الواضح أن السياسات المالية المتخبطة أصبحت أيضا جزءا من النقاشات الداخلية في ألمانيا وهولندا وغيرهما. حيث يرى أقصى اليمين أنه يجب الثبات على عدم ضخ أموال لدول الجنوب.
بل حتى مدير البنك المركزي الاتحادي الألماني، ينس فايدمان، صرح بوضوح لمحطة "آي آ ردي" بأن أوروبا لا تحتاج لـسندات كورونا، مضيفا "أنت لا تعير (تقرض) بطاقتك الائتمانية لآخرين إذا لم يكن لديك قدرة للتحقق والسيطرة على مقدار المال الذي سينفقونه".
ويرى معسكر المحافظين في دول الشمال، وبالأخص خبراء الاقتصاد فيه، أن سياسة شراء السندات لمساعدة اقتصاديات تعاني عجزا في جنوب القارة سوف يجر القارة إلى فترة الأنفلونزا الإسبانية وتضخم الحرب العالمية الأولى، وفقا لما رأى مدير معهد إيفو الاقتصادي في ألمانيا، هانز فارنر سين بحسب صحيفة "دي فيلت".