11 سبتمبر 2024
الاحتجاجات في الجزائر.. كرة ينفخها التهميش
وقف "الكواسر"، وهو لقب يطلقه أنصار فريق اتحاد الحراش لكرة القدم على أنفسهم، وقفوا في مدرجات ملعبهم شرقي مدينة الجزائر ينشدون، وبصوت عالٍ لتسمعه السلطات "الجزائر بعتوها وقسمتوها واشتريتم الفلل في باريس". ومن المدرجات التي أرادتها السلطات متنفساً بديلاً للشوارع، جاء احتجاج الشباب، وكانت رسالتهم واضحة لا لبس فيها، فهم يشكون البطالة، لسان حالهم يقول إنهم يشكون قبل ذلك من حالة التهميش التي أغلقت أبواب المشاركة في تسيير الشأن العام، وقصرته على منتفعين من الريع الذي توزعه أجهزة الدولة عليهم، عبر مشاريع متعدّدة، عرف الفساد إليها طرقاً ملتوية، لم تستطع الفكاك منه، لوقوف المتربصين لها بالمرصاد، فلا يكاد مشروع ما يخرج من جعبة التخطيط الإداري إلى حيز التنفيذ، حتى تلتهمه أفواه الفساد التي لا تحتمل الإبطاء ولا الإرجاء، فيكون مصيره التأخير سنوات طويلة، تُحيد المشروع عن هدفه المنشود. أو قد لا تكتمل أركانه فيولد مشوهاً أو أعرج، أو قد تُنهب أمواله قبل اكتماله، فيبقى عرضةً للإهمال، ورياح النهب تعصف به من كل جانب.
لم يكن جرس الإنذار الذي أطلقه "الكواسر" النداء الوحيد الصادر من الجماهيرعامة، وجماهير كرة القدم خصوصاً، فلقد شهد ملعبان في قسنطينة ووهران احتجاجات خرجت عن طابعها السلمي، وأدت إلى فوضى وتخريب في ممتلكات عامة وخاصة، وإلى إصابة بعض المناصرين بجروح خطيرة، ما أدى إلى تدخل السلطات الأمنية بكل أجهزتها لتهدئة الوضع، وحتى لا تتطور الأمور إلى ما لا يحمد عقباه.
لم يجد وزير الداخلية نور الدين بدوي بُداً من الخروج عن هدوئه المعهود في معالجة هذه
الاحتجاجات بترك وزارة الرياضة والشباب تتصرف بمفردها، إما باتخاذ إجراءات إدارية عقابية ضد بعض الأندية أو رؤسائها. ولكن بلغ السيل الزبى، تقول السلطات هذه المرة، فالاحتجاجات خرجت عن طابعها الرياضي البحت، وأصبحت تهدّد السكينة والأمن العام وفق وزارة الداخلية.
تكرّرت الاحتجاجات على رقعة الجزائر الجغرافية الواسعة، فلا يكاد يمر يوم من دون تسجيل احتجاجات لجزائريين من مختلف الفئات الاجتماعية أو المهنية، إما اعتصامات أو مسيرات، أو قطع طرق ووضع متاريس أو إضرابات عن الدراسة أو العمل. وأخرجت وزارة الداخلية ترسانتها القانونية للحد من ظاهرة الاحتجاجات العنيفة، وهي تعرف مسبقا أن اللجوء إلى هذه الطريقة من الردع لن تزيد الأوضاع إلا اشتعالا، فتطبيق القانون يتطلب قدرا كبيرا من العدالة والشفافية، وهي أمورٌ يطعن المحتجون في مدى تطبيقها، بل ويرون أن انعدام الشفافية في التسيير، وغياب العدالة في توزيع الريع العام، هي ما أدى إلى هذه الاحتجاجات التي يعبر فيها الرأي العام عمّا يعتمل في صدره من مشكلات وغبن. ذلك أن مفهوم العدالة الاجتماعية الذي ما زالت السلطة الجزائرية تقول إنها تطبقه على كل المواطنين، وبالتساوي في كل المناطق، من خلال مفهوم التوزان الجهوي والمناطقي في توزيع المشاريع، اهتز مع انتقال الجزائر إلى مرحلة السوق المفتوحة، والخصخصة التي يتهم فيها كثيرون السلطات ببيع المعامل العامة والعقارات الصناعية، وحتى الزراعية، لأصحاب النفوذ والمقربين من النظام.
لم تفلح قرارات السلطة الجزائرية في منع المظاهرات في الجزائر العاصمة، وتقنينها في الولايات الأخرى بمجموعةٍ من الإجراءات والتصريحات الإدارية لمنع المحتجين من الخروج إلى الشارع، سواء في العاصمة أو في المدن الأخرى، فقد شهدت شوارع الجزائر العاصمة احتجاجاتٍ كثيرة، منها احتجاجات الأطباء الأخصائيين الذين تمكّنوا من تعطيل المستشفيات، ومن زيادة منسوب صداع الاحتجاجات الذي تعرف قطاعاتٌ مهمةٌ أخرى، مثل قطاع التعليم.
وحين تردد جماهير الكرة أن "الدولة هي سبب عذابنا"، كما جاء على لسان أنصار فريق الحراش، فإن صدى ذلك يتردّد في الشارع العام، أو لعله صوت الشارع يتردّد جهارا نهارا في مدرجات الملاعب التي أصبحت المتنفس الوحيد للشباب، للتعبير عن انشغالاتهم واهتماماتهم. فمع غياب المشروع السياسي الواضح للدولة، وانحسار العمل الحزبي في مجموعة أحزابٍ تدور في فلك السلطة، وعجز أحزاب المعارضة عن بلورة رؤيةٍ لتوحدها، يبقى العمل السياسي في الجزائر محصورا في حدود ما تراه السلطة وحدها. ويوسم بعد ذلك كل من يخرج عن هذا الإطار من السلطة بكل النعوت السلبية الممكنة، فقد انبرى الوزير الأول، أحمد أويحيى، على تأنيب علني لأحد الصحافيين، في آخر مؤتمر صحافي له، خصص لتقديم حصيلة عمل الحكومة السنوية. لا لسبب إلا لأن الصحيفة التي يُمثلها ذلك الصحافي تُعد من صحافة المعارضة، والمعارضة في عرف الوزير الأول الجزائري صفة السلبية، أو نكوصية كما يعتقد، تؤدي وفق فهمه لعرقلة عمل الحكومة.
من كلام أويحيى تُستنج رؤية الحكومة للمعارضة، فمبدأه أن الذي ليس معي فهو ضدي، ولا بأس بعد ذلك في بعض الأصوات المُتحكم فيها، ترتفع من حين إلى آخر بإيعاز، لتوجيه انتقاد، أو تنبيه، لا يضر ولا ينفع. فقد دأبت الحكومة الجزائرية منذ سنوات على شراء السلم
الاجتماعي، بطرق بدت، أحياناً، هزلية تعتريها كثير من مظاهر التبذير، فما زالت الذاكرة تحتفظ بما قاله الوزير الأول السابق، عبد المالك سلال، بشأن مشاريع الشباب التي فشلت في إحراز النجاح المأمول منها في تحريك الآلة الاقتصادية المحلية، وتغطية العجز في فرص العمل، فحين سُئل سلال عن ذلك الفشل، أجاب بعدم الجدوى من السؤال عن مآل تلك الأموال، وأن للشبان المستفيدين أن يفعلوا بها ما يشاءون، وحتى يتزوجوا بها إن أرادوا.
قد يقول من هؤلاء إن هذا الكلام مضت عليه أربع سنوات، وكان في أثناء حملة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لولايته الرابعة، غير أن منطق التبرير هذا بدأ يعود إلى الواجهة، وبدون شفافية في إدارة المشاريع، ولا ديمقراطية تشاركية، تنطلق آلة السلطة الإعلامية في حملةٍ غير معلنة تحضيراً لولاية خامسة للرئيس بوتفليقة في الانتخابات الرئاسية في إبريل/نيسان 2019، والتي لا يستبعدها العارفون بشأن الحكم في الجزائر.
ولكن، ألا يمكن لهؤلاء الذين يتزعمون الشأن العام أن يأخذوا في الحسبان احتجاجات المحتجين سواء كانوا في أماكن العمل أو في الشوارع أو الملاعب، فهي تمظهرات اجتماعية لا يمكن إغفالها بأي حال.
لم يكن جرس الإنذار الذي أطلقه "الكواسر" النداء الوحيد الصادر من الجماهيرعامة، وجماهير كرة القدم خصوصاً، فلقد شهد ملعبان في قسنطينة ووهران احتجاجات خرجت عن طابعها السلمي، وأدت إلى فوضى وتخريب في ممتلكات عامة وخاصة، وإلى إصابة بعض المناصرين بجروح خطيرة، ما أدى إلى تدخل السلطات الأمنية بكل أجهزتها لتهدئة الوضع، وحتى لا تتطور الأمور إلى ما لا يحمد عقباه.
لم يجد وزير الداخلية نور الدين بدوي بُداً من الخروج عن هدوئه المعهود في معالجة هذه
تكرّرت الاحتجاجات على رقعة الجزائر الجغرافية الواسعة، فلا يكاد يمر يوم من دون تسجيل احتجاجات لجزائريين من مختلف الفئات الاجتماعية أو المهنية، إما اعتصامات أو مسيرات، أو قطع طرق ووضع متاريس أو إضرابات عن الدراسة أو العمل. وأخرجت وزارة الداخلية ترسانتها القانونية للحد من ظاهرة الاحتجاجات العنيفة، وهي تعرف مسبقا أن اللجوء إلى هذه الطريقة من الردع لن تزيد الأوضاع إلا اشتعالا، فتطبيق القانون يتطلب قدرا كبيرا من العدالة والشفافية، وهي أمورٌ يطعن المحتجون في مدى تطبيقها، بل ويرون أن انعدام الشفافية في التسيير، وغياب العدالة في توزيع الريع العام، هي ما أدى إلى هذه الاحتجاجات التي يعبر فيها الرأي العام عمّا يعتمل في صدره من مشكلات وغبن. ذلك أن مفهوم العدالة الاجتماعية الذي ما زالت السلطة الجزائرية تقول إنها تطبقه على كل المواطنين، وبالتساوي في كل المناطق، من خلال مفهوم التوزان الجهوي والمناطقي في توزيع المشاريع، اهتز مع انتقال الجزائر إلى مرحلة السوق المفتوحة، والخصخصة التي يتهم فيها كثيرون السلطات ببيع المعامل العامة والعقارات الصناعية، وحتى الزراعية، لأصحاب النفوذ والمقربين من النظام.
لم تفلح قرارات السلطة الجزائرية في منع المظاهرات في الجزائر العاصمة، وتقنينها في الولايات الأخرى بمجموعةٍ من الإجراءات والتصريحات الإدارية لمنع المحتجين من الخروج إلى الشارع، سواء في العاصمة أو في المدن الأخرى، فقد شهدت شوارع الجزائر العاصمة احتجاجاتٍ كثيرة، منها احتجاجات الأطباء الأخصائيين الذين تمكّنوا من تعطيل المستشفيات، ومن زيادة منسوب صداع الاحتجاجات الذي تعرف قطاعاتٌ مهمةٌ أخرى، مثل قطاع التعليم.
وحين تردد جماهير الكرة أن "الدولة هي سبب عذابنا"، كما جاء على لسان أنصار فريق الحراش، فإن صدى ذلك يتردّد في الشارع العام، أو لعله صوت الشارع يتردّد جهارا نهارا في مدرجات الملاعب التي أصبحت المتنفس الوحيد للشباب، للتعبير عن انشغالاتهم واهتماماتهم. فمع غياب المشروع السياسي الواضح للدولة، وانحسار العمل الحزبي في مجموعة أحزابٍ تدور في فلك السلطة، وعجز أحزاب المعارضة عن بلورة رؤيةٍ لتوحدها، يبقى العمل السياسي في الجزائر محصورا في حدود ما تراه السلطة وحدها. ويوسم بعد ذلك كل من يخرج عن هذا الإطار من السلطة بكل النعوت السلبية الممكنة، فقد انبرى الوزير الأول، أحمد أويحيى، على تأنيب علني لأحد الصحافيين، في آخر مؤتمر صحافي له، خصص لتقديم حصيلة عمل الحكومة السنوية. لا لسبب إلا لأن الصحيفة التي يُمثلها ذلك الصحافي تُعد من صحافة المعارضة، والمعارضة في عرف الوزير الأول الجزائري صفة السلبية، أو نكوصية كما يعتقد، تؤدي وفق فهمه لعرقلة عمل الحكومة.
من كلام أويحيى تُستنج رؤية الحكومة للمعارضة، فمبدأه أن الذي ليس معي فهو ضدي، ولا بأس بعد ذلك في بعض الأصوات المُتحكم فيها، ترتفع من حين إلى آخر بإيعاز، لتوجيه انتقاد، أو تنبيه، لا يضر ولا ينفع. فقد دأبت الحكومة الجزائرية منذ سنوات على شراء السلم
قد يقول من هؤلاء إن هذا الكلام مضت عليه أربع سنوات، وكان في أثناء حملة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لولايته الرابعة، غير أن منطق التبرير هذا بدأ يعود إلى الواجهة، وبدون شفافية في إدارة المشاريع، ولا ديمقراطية تشاركية، تنطلق آلة السلطة الإعلامية في حملةٍ غير معلنة تحضيراً لولاية خامسة للرئيس بوتفليقة في الانتخابات الرئاسية في إبريل/نيسان 2019، والتي لا يستبعدها العارفون بشأن الحكم في الجزائر.
ولكن، ألا يمكن لهؤلاء الذين يتزعمون الشأن العام أن يأخذوا في الحسبان احتجاجات المحتجين سواء كانوا في أماكن العمل أو في الشوارع أو الملاعب، فهي تمظهرات اجتماعية لا يمكن إغفالها بأي حال.