تعيش مجتمعاتنا العربية بجانب تطاحناتها الطبقية تطاحنات فكرية ومذهبية تكاد تفتك بها وتنسل نسيجها المتداخل، خاصة خلال الأعوام الأخيرة.
لم يعد أحد يصدق كلمات رجال الدين الرنانة بأن المجتمعات العربية متماسكة تحوطها الوحدة الوطنية من جميع أركانها، فهذا التخدير اللغوي والوصفي يرقد تحته بركان تعصبي تنفجر فوهاته الصغيرة من وقت لآخر، آذنة بانفجار هائل ربما خلال السنوات المقبلة.
ولم تعش مجتمعاتنا العربية في يوتوبيا من العلاقات يوماً ما كما يدعي بعضهم، وكما يروج له الكثيرون، كما لم تكن يوماً الاختلافات الفكرية والمذهبية بين المواطنين في الشعب الواحد تمر بسلام حقيقي، وإن كان ظاهرياً، كانت هناك الطائفية في التعاملات والطائفية في الأفكار والطائفية في الطبقات المجتمعية والطائفية في الديانات والطائفية في المذاهب من الدين الواحد!
ولأن الأنظمة الديكتاتورية تُلهي شعوبها بأحداث متلاحقة، حتى لا يجدوا الأنفاس والمشاعر ليبحثوا عن حقوقهم المسلوبة وحرياتهم منتهية الصلاحية منذ عقود، فتقوم هذه الأنظمة بتغذية الطائفية في أركان حياتهم وتغذي الصراعات فتقوم الحروب الأهلية بتفاهات الأسباب، وترتخي الأنظمة المستبدة في كراسيها تشاهد بعين الرضا المَقتلات الدموية وتساهم من حين لآخر في إشعالها بأجهزتها الأمنية الوحشية.
لم تقم ثورات الربيع العربي لأجل تكريس الفرقة والانقسام، بل كانت ثوراته تطالب بالحقوق المهدورة، والتماسك الحقيقي لجذور المجتمعات، ونبذ الطائفية والعرقية والصراعات المتوارثة، وخلع الأنظمة التي كرست لتفريق شعوبها وزرع ألغام الحرب بينهم.
فمتى يعي الحكام أن الوطن واحد لا سيادة فيه إلا للشعب، وأن اللحمة الاجتماعية هي عماد الوطن وصمام أمانه الوحيد.
ومتى يعي السياسيون أنهم مسؤولون عن أي تعدٍ تحريضي يستهدف النيل من هذه السيادة وأن المساس بها تحت أي مسمى هو خروج عن الصف الوطني وعصف بقيمه الراسخة.
ومتى تعي الشعوب أنها وقود لمعركة مستعرة لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وأن الخلاف السياسي بين أبناء الوطن الواحد سنّة تدل على التحضر، وأن الوطن شراكة وائتلاف لا إقصاء ومغالبة، وينحوا صراعاتهم الأيديولوجية جانباً ليمضوا في بناء دولتهم الجديدة معاً، ويشتركوا كافة في صياغة ملامحها.
ومتى يعي الجميع أن الهدف يجب أن يكون دولة مدنية تكفل حرية الفكر والتعبير والاعتقاد، من دون تمييز بسبب دين أو جنس أو عرق.
وأن الهدف دولة ذات اقتصاد قوي يرفع من شأنها، وتتمتع برخائه كافة طبقات الشعب، في عدالة اجتماعية توفر الخدمات الأساسية بصورة كريمة لكل مواطن، دولة ذات سيادة تملك قرارها، وتحظى بمكانها اللائق بين دول العالم، وذات مجتمع مدني فاعل، يشارك بقوة في نهضة المجتمع وتماسكه وازدهاره، وتقويم مسار إدارته.
لنعي دروس التاريخ.. ففي البدء يأتي الإنسان، قبل السلطة والقانون والبنيان، قبل النظام والسلطة، هو أصل كل بنيان، واضع القوانين، منشئ الأنظمة ومخصص السلطات.
راسلونا على: Jeel@alaraby.co.uk