انطلقت السيارة تاركةً خلفها غبار الرصيف وشاباً يحمل حقيبة سوداء على كتفه. وكانت القرية الريفية الصغيرة نائمة في ظلال البيوت، هرباً من شمس تمّوز. نظر الشاب يميناً وشمالاً، لم يرَ سوى السيارة التي تركته، تنعطف - من بعيد - مع انعطافة الشارع وتختفي وراء غابات النخيل التي تمتدّ على طول الشارع.
اجتاز الشارع على عجل، وكان التعب بادياً على وجهه إثر طول السفر، تنصبُّ على رأسه شمس تمّوز العمودية الحارقة. ولج شارعاً ترابياً يمتدّ بمحاذاة نهر صغير. تطلّع إلى الماء الأخضر في ذلك النهر. لطالما سبح فيه في صغره برفقة الأطفال، وها هو الآن، في حرّ الظهيرة القاتل، يتمنّى لو يغمس جسده فيه، بل ربما ينام فيه حتى العصر. ولكنّ بيته يلوح أمامه، بطابوقه الأصفر، حيث تنتظره عائلته الصغيرة.
وكان الهدوء في تلك الظهيرة يعمّ المكان، إلّا من نباح كلاب بعيدة. دخل بيته، فاستقبلته زوجته والتفّ حوله أطفاله، احتضنهم وقبّلهم، ثم أخرج من حقيبته البسكويت والحلوى ووزعها عليهم، فانفض الأطفال من حوله وراحوا يأكلون ويلعبون.
دخل الحمّامَ ليغتسل، فيما انشغلت زوجته بإعداد الطعام له، ريثما يخرج. تناول وجبة الغداء، ثم لجأ إلى السرير ليأخذ قسطاً من الراحة، في حين كانت زوجته تتمدّد جنبه، تداعب ذراعه وهي تتطلّع إليه.
لا يدري كم مرّ من الوقت حين أيقظه رنين الهاتف النقّال، ناولته إياه، فأجاب على المتّصل بصوت مجهَد:
- ألو
- ....
- أهلا حبيبي، شخبارك؟
- ....
- الحمد لله، كلشي تمام.
- ....
- أي والله، أجيت قبل شوية.
- ....
- ماشي يابه، أهلا وسهلا بيكم حبيبي.
أعلم زوجته - وهو ينهض متثاقلاً من على السرير - أن صديقيه سيأتيان لزيارته. غسل وجهه أمام المرآة، مشّط شعره وشاربه، ثم دخل الغرفة لارتداء ملابسه. كانت زوجته - في الأثناء - قد رتّبت غرفة الاستقبال وأعدّت الشاي.
طُرق الباب وصاح أحدهم باسمه في الشارع، خرج الشاب واستقبل صديقيه، ثم أدخلهما غرفة الاستقبال وشغّل المبرّدة، فأخذت تدفع بهوائها البارد في الغرفة.
- الحمد لله على السلامة يابه، شخبارك أمورك؟ سأله الصديقان.
- الحمد لله، كلشي تمام.
- دوامك شلونه، انشالله مرتاح؟
- لا الحمد لله، ماشية. انتو شخباركم؟
- والله على حطّة أيدك. إذا خلصت جكارة نشعل غيرها، وإذا خلص باكيت نشتري غيره.
ضحك الجميع، في حين طُرق باب غرفة الاستقبال من جهة المطبخ، استأذن الشاب صديقيه، وقبل خروجه طلبا منه الرقم السري لشبكة الإنترنت. عاد الشاب بعد لحظات يحمل صينية تتوزّع عليها أكواب الشاي وأقداح الماء. وجدهما غارقَين في الصمت، برأسَين محنيَين، كلٌ يقلّب بهاتفه الذكي. وضع أمامها الشاي والماء، رفعا رأسيهما، شكراه ثم عادا إلى صمتهما.
جلس أمامهما، يتطلّع إلى رأسيهما المحنيين، وأصابعهما التي تتحرّك بخفة على الهاتفين النقّالين. استغرق بعض الوقت وهو يتطلّع إلى صديقيه اللذين أيقظاه من نومه وجاءا لزيارته، وها هما الآن أمامه. قطع الصمت بأن سألهما عن أحوالهما، فكانت تمر بعض اللحظات حتى يجيب أحدهما عن السؤال باقتضاب، دون أن يرفع رأسه:
- لا الحمد لله، ماشية الأمور.
فيما يكتفي الآخر بجواب رفيقه، فلا يضيف شيئاً، بينما أصابعه تسبح فوق شاشة الهاتف. وكانت لدى الشاب رغبة في الحديث مع صديقيه عن أمور كثيرة حدثت له أثناء دوامه في العسكرية، وقد سبّبت له الهم والكدر، ولكن الصديقين لم يبديا رغبة في الاستماع إليه. وكان بوسع الشاب أن يصرخ بهما أو يعنّفهما، بحكم علاقة الصداقة التي تربطه بهما، ولكنه رفض الفكرة، فهو لم يرهما منذ ما يقارب الشهر، ثم إنه أراد أن يرى أين سيصل بهما الأمر.
مرّ الوقت ثقيلاً أمام عينَي الشاب، فيما كان صديقاه غارقين في شاشتي هاتفيهما، يبتسمان حيناً أو يضحكان، ويقطّبان جبينيهما تعجُّباً واستغراباً حيناً آخر. فكّر الشاب بسريره الذي جرّه منه الاتصال الهاتفي، خطر في ذهنه أن يترك صديقيه، ويعود إلى سريره، من يدري متى سينتهيان من هاتفيهما ومن مواقع التواصل وفيديوهات اليوتيوب؟ عدل عن فكرته، ليس من الأدب أن يفعل ذلك. فكّر أن يجلب هاتفه ثم يتواصل معهما عن طريق الفايبر أو الواتساب، ولا شك في أنهما سيتفاعلان معه، وربما سينفجر الجميع ضحكاً. كانت الفكرة جيدة، ولكنه عدل عنها، فهو متعب ويشعر بشيء من الانزعاج، وليس لديه مزاج للضحك.
تمنّى لو ينهض ويسحبهما من أيديهما، يخرجون حفاةً تحت وطأة الشمس اللاهبة، كما كانوا يفعلون في طفولتهم حين يهربون من البيت على غفلة من أهلهم، ويركض بهما صوب النهر. يخلعون ثيابهم ويقفزون في الماء. يتصارعون ويلعبون، يلاحق بعضهم الآخر في النهر الصغير. أو يلاحقون ضفدعاً ما، أو يصطادون الأسماك الصغيرة، أو يغطسون للبحث عن درهمٍ بين الحصى، فقده أحدهم في لحظة سهو، ليعثروا عليه وكأنهم عثروا على كنز. ثم يركضون حفاة في الطرقات، يرمون مصباحاً ما بالحجارة، أو يطرقون الأبواب ويهربون، يتعبون ويكركرون. ثم يذهبون إلى البساتين، يسرقون العنب من بستان أحدهم، يملأون جيوب دشاديشهم ويعودون إلى النهر، يغمسون عنقود العنب في الماء ليبرد، ثم يرمون الحبات عالياً ليلتقطوها بأفواههم المفتوحة نحو السماء.
لكنّ كلّ هذا لن يحدث، لقد ولّى ذلك الزمان، ومعه العالم السحري العجيب. وجاءت الآن عوالم أكثر سحراً، لا تحتاج معها إلى الركض والعناء. في تلك الشاشة الصغيرة التي ينعكس منها ضوء خفيف على وجهيهما، هنالك عالم شاسع لا نهاية له، لا تحتاج للتنقّل فيه إلا إلى طرف الإصبع. كان الشاب ينظر إلى صديقيه، ولا يرى من ذلك العالم سوى علبة سوداء أصغر حجماً من الكف، كعلبة شكولاطة صمّاء.
فجأة رأى الشاب أحد أطفاله يمدّ رأسه من وراء الباب، يضع إصبعه في فمه ويبتسم. ناداه بإشارة من يده فقدِم الطفل، جعل الشاب يلاطف ولده ويقبله، وكأن لا أحد حوله.
أخيراً رفع أحد الصديقين وجهه عن هاتفه، دسّه في جيبه ثم تطلّع إلى الشاب المجهد:
- إي شلونه الدوام؟ انشالله مرتاح؟
- الحمد لله، شوية تعب بس ماشية.
- زين يابه، عود خلي نشوفك بالسوگ - قال الصديق، وهو ينهض.
- إي إي انشالله.
كان الشاب الآخر يتطلع ضاحكاً إلى فيديو وجده على فيسبوك. رفع رأسه من الشاشة وقال لصديقيه بأن الفيديو مسلٍ جدّاً، وإنهما لا بد أن يشاهداه.
- راح أرسله إلكم على الواتساب.
وبينما كانا يخرجان أرسل الشابُ الفيديو لصديقيه، ودّعهما الشاب ودخل إلى بيته.
عاد وجلس حيث كان، في غرفة الاستقبال، وطفله يتكئ على فخذه. أنصتَ إلى صمت الغرفة الذي يشقّه الهواء المندفع من المبرّدة، ثم تطلّع إلى حيث كان يجلس صديقاه. كانت آثار جلوسهما ما زالت واضحةً على قماش الأريكة.
ربما ما زالت دافئة، قال في نفسه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بابل وما بعدها
كاصد محمد كاتب ومترجم عراقي وُلد في مدينة بابل عام 1981، تخرّج من "جامعة بغداد" في اللغة والأدب الإيطاليّين (2006)، ونال الماجستير (2011) ثمّ الدكتوراه (2015) في الأدب المقارن من "جامعة بولونيا". يكتب بالعربية والإيطالية، ويترجم من وإلى اللغتين. أطلق رفقة كتّاب آخرين مجلّة "الآلة الحالمة" التي تُعنى بالترجمة في إيطاليا، وصدرت له مجموعة شعرية بالإيطالية بعنوان "الحياة ليست مقبرة جماعية" (2017).