لم تكن سنة 2014 استثنائيّة فقط على صعيد ما شهدته تونس من أحداث إرهابيّة، أو النجاح في تنظيم ثاني انتخابات تشريعيّة ورئاسيّة بعد ثورة 2011، بل تميّزت هذه السنة بتفاقم ظاهرة الانتحار التي هزّت المجتمع التونسيّ وأثارت الكثير من الاستهجان في صفوف المنظّمات الحقوقيّة ووسائل الإعلام.
الأخيرة، سردت الأسماء والأعمار وظروف الانتحار، لتمر مرور الكرام، وتطوى المسألة دون أن يتساءل أحد عن الدوافع التي كانت وراء اختيار هؤلاء التواري إلى الأبد. بل وغابت القضية الأساسية التي تتجلّى من خلال الإحصائيّات المطروحة، والتي بيّنت أنّ أعلى نسب حالات الانتحار كانت في الجهات والبلدات الأكثر فقراً وبؤساً في تونس...
الأكيد أن عدد البوعزيزيين يرتفع شهرياً، ولكن هذه المرة لا أحد يسأل عنهم، ولا يحتلون الشاشات المحلية ولا العالمية. في حين تستمر السياسات الاقتصادية باقصائهم وتهميشهم.
الأخيرة، سردت الأسماء والأعمار وظروف الانتحار، لتمر مرور الكرام، وتطوى المسألة دون أن يتساءل أحد عن الدوافع التي كانت وراء اختيار هؤلاء التواري إلى الأبد. بل وغابت القضية الأساسية التي تتجلّى من خلال الإحصائيّات المطروحة، والتي بيّنت أنّ أعلى نسب حالات الانتحار كانت في الجهات والبلدات الأكثر فقراً وبؤساً في تونس...
الأكيد أن عدد البوعزيزيين يرتفع شهرياً، ولكن هذه المرة لا أحد يسأل عنهم، ولا يحتلون الشاشات المحلية ولا العالمية. في حين تستمر السياسات الاقتصادية باقصائهم وتهميشهم.
ارتفاع حالات الانتحار
من بين الّذين حاولوا توثيق حالات الانتحار وتسليط الضوء على أسبابها وحيثياتها عبر الإحصائيات كان الدكتور عبد الرحمن الهذلي، الذي نظّم ندوة أوائل الشهر الحالي، للحديث عن هذه الظاهرة التي تتفاقم يوما بعد يوم.
يقول الهذلي لـ"العربي الجديد" إن عدد حالات الانتحار التي تم تسجيلها خلال سنة 2014، بلغت 203 حالات بمعدّل 20 حالة انتحار شهريّاً. وقد كان شهر كانون الأوّل/ديسمبر الأكثر مأساوية بتسجيل 27 حالة. وقد علّق الدكتور الهذلي، قائلا أنّ هذا الرقم يظلّ نسبيّا
أما بخصوص الشرائح العمريّة، فيجيب الهذلي أن 30% من الحالات خلال السنة الماضية تتراوح أعمارها بين 26 سنة و30 سنة، تليها شريحة المراهقين والشباب بنسبة 18%. ليستطرد قائلاً: "لقد سجّلنا حالات انتحار تثير الرعب في شريحة الأطفال ما دون الخامسة عشر سنة بنسبة مرتفعة نسبيّا تجاوزت 3%. وهنا يجب دقّ ناقوس الخطر ما دام الموت الاختياري صار يدقّ أبواب الأطفال وماثلاً في أذهانهم".
الإحصائيّات والأرقام التي أعلنها الدكتور الهذلي، وخصوصاً تلك التي تكشف تباين الأرقام بين الجهات والشرائح العمريّة، دفعت "العربي الجديد" للتوجه إلى الخبير الاقتصادي مصطفى الجويلي لتحليل تلك البيانات.
"مربط الفرس"
أوّل الملاحظات التي أبداها الجويلي، كانت بخصوص التفاوت في عدد الحالات المسجّلة بين المناطق المهمّشة اقتصاديّاً من جهة، وتلك التي تتمتّع بأولويّة لدى الدولة على صعيد التنمية والاستثمارات من جهة أخرى. حيث يعتبر أنّ الربط بين الوضع الاقتصادي لتلك المناطق واليأس نتيجة تعاظم الفقر والبطالة وانسداد الأفق أمام الأهالي، "مربط الفرس"، لتفسير هذه الأرقام ومكافحة هذه الظاهرة.
ليضيف أنّ الإحصائيّات الأخيرة للمعهد الوطني للإحصاء تبيّن تضاعف نسب الفقر والبطالة والأميّة في الجهات التونسيّة المهمّشة على الصعيدين الاقتصاديّ والاجتماعي. لتبلغ نسبة البطالة في الشريط الغربي للبلاد يفوق 30%، في حين تصل بطالة أصحاب الشهادات العليا إلى 50% حسب ما صرّحت به وزارة الشؤون الاجتماعية. وهو ما أدّى إلى تنامي نسبة الفقر في مختلف تلك المحافظات لتتجاوز 38%، حيث لا يتجاوز معدّل الإنفاق الأسري
أمّا بخصوص البنى التحتيّة وواقع الاستثمار والتنمية في تلك المناطق التي شهدت أعلى نسب حالات الانتحار، فيعلّق الجويلي قائلاً إنّ "تلك الجهات تعيش واقعاً مزرياً بأتمّ معنى الكلمة، حيث تغيب أبسط المرافق العموميّة من مستشفيات ومدارس ومصالح حكوميّة، ممّا يضطر الأهالي إلى التنقّل لأميال عديدة لقضاء شؤونهم في طرقات ترابيّة وعرة تزيد من معاناتهم وتمثّل خطراً حقيقيّاً على حياة الأطفال والبالغين على حدّ سواء".
ولعلّ أكبر دليل على تهميش تلك المناطق هو حجم الاعتمادات التي تخصّص لها، حيث كشفت ميزانيّة سنة 2015 حجم التفاوت في تقسيم موارد الدولة، إذ تستأثر 7% من بلديّات البلاد الواقعة في المناطق المحظوظة كالساحل والضاحية الشمالية الراقية في العاصمة التونسيّة على 51% من اعتمادات الموازنة، في حين يتم تقسيم الباقي على 93% من البلديات المنتشرة في البلاد والتي يناهز عددها 249 بلديّة.
ظروف قاهرة
في هذا السياق، وللربط بين ظاهرة الانتحار والفقر والتهميش، يعلّق الخبير في علم الاجتماع، الدكتور خليل الرقيق، قائلاً إنّ "الظروف الاقتصاديّة المزريّة التي يعيش فيها أهالي المناطق التي شهدت أعلى نسب الانتحار، تمثّل السبب الأساسي وراء تفاقم هذه الظاهرة، وتفسّر بوضوح التباين بين منطقة وأخرى، لأنّ اختيار الموت مردّه اليأس وفقدان الأمل في تحسّن الوضع الاقتصاديّ والاجتماعي في المستقبل القريب".
ويضيف الرقيق لـ"العربي الجديد"، أنّ ارتفاع الضغوط المعيشيّة من غلاء وشلل سوق الشغل والإحساس بالظلم والتهميش بالإضافة إلى غياب بدائل تطرحها الحكومات المتعاقبة واجترار الخيبات، يدفع الإنسان إلى حالة خطيرة من اليأس والاكتئاب تصل بصاحبها إلى التفكير جديّاً في الموت كحلّ لإنهاء معاناته الاجتماعيّة والاقتصاديّة، حين يصل إلى قناعة بأنّ حياته بوضعها الحاليّ والموت سواء.
ويستطرد الدكتور خليل مشيراً إلى أنّ ظاهرة انتحار الأطفال تعبّر بشكل واضح عن مدى اليأس والإحباط الذي أصاب الجيل الجديد وهو يراقب حالة الجمود الاقتصادي وانعدام أيّ بصيص أمل بالتغيير الإيجابي. فما معنى أن يقدم طفل لم يتجاوز العشرة من عمره على اختيار الموت لولا إحساسه بأنّ المستقبل لن يحمل له سوى المزيد من الخيبة والمعاناة؟
سلسلة حالات الانتحار لم تتوقّف مع قدوم سنة 2015، خصوصاً أن الأزمة الاقتصاديّة ما زالت متواصلة وتزيد من اختناق المواطنين شيئاً فشيئاً أمام عجز سياسيّ واجترار للوعود والشعارات التي جرّبها النّاس طوال سنوات، دون أن يحسّوا بتغيير ملموس على أرض الواقع.
إقرأ أيضاً: مؤشر الحقيقة: كلا البطالة في مصر ليست 12.9%