البيانو ولحن اللجوء
ميخائيل سعد
كادت النميمة الصباحية تنتهي عند هذه الحدود المفتوحة على أحلام حزينة، ملونة بدم السوريين واللبنانيين، وقصص اللاجئين السوريين في لبنان التي شغلت فضاءات الإعلام والسياسة. عندما حدقت ندى في الطرف الآخر من المقهى، وظننتُ للحظة أن نظرات الحب التي تشعّ من عينيها، ربما وقعت على صديقة قديمة، أو على شخص وسيم مثلي، فالتفتُ مستطلعاً وباحثاً عن شيء يستحق كل هذا الحب المتدفق من عيني صديقتنا اللبنانية، فلم أجد إلا "بيانو" أكثر "ختيرة" مني. عدت بنظراتي متأملاً وجه ندى المشبع بندى الحب، والذي يشبه ما نراه على وجوه القديسات، بالأيقونات المسيحية المعلقة في كنائس وأديرة الشرق العتيقة، وسألت: "هل تغازلين هذا "البيانو" يا سيدتي؟"
قالت وعيناها ما تزالان تحتضنان شيئاً مجهولاً: "قد لا تصدقان أنّ "بيانو" شبيهاً بهذا، شكلاً وماركة، قد رافق عائلتنا منذ عام 1860. فقد اقتناه، في فرنسا، أحد جدودي، وعندما عاد إلى لبنان اصطحبه معه، مع أشياء غربية أخرى، وتم توارثه في العائلة، من جيل إلى آخر، إلى أن وصل إلى بيتي، فأقام عندي عشرين عاماً، ورغم أصول البيانو الغربية فإنه لم يستطع أن يلغي عشقنا للموسيقى الشرقية، أثناء إقامته في بيتي. كنت، أحياناً، أسند ظهري إليه وأنا أسمع الحلبي صبري مدلل، والقدود الحلبية من فم صباح فخري، وتلاوات عبد الباسط عبد الصمد لبعض سور القرآن، قبل أن تقرر أختي نقله إلى مونتريال، وهو الآن في بيتها.
إن هذا "البيانو" يشبهنا، فيه بعض تاريخنا، وفي هجراتنا، وبعض عشقنا للموسيقى، وعلى مفاتيحه العاجية آثار بصمات أصابع أجيال من أسرتي، فكيف لا أحبه، يا صديقي!
حسدتُ ندى وأنا أتذكر كيف عجزتُ عن البقاء في سورية، بل حتى على الاحتفاظ بمكتبتي الشخصية، والكتب التي أحببتها، وكيف كان الأمن السوري يصادر ويحرق ويعتقل ويدمر كل ما يمت إلى السوري من تاريخ أو ثقافة أو حتى قصص حب.
كان همّ آل الأسد تحويل سورية الى مزرعة خاصة وسجن مظلم، ولم يكن في حسبان هذا النظام الظالم أن مجموعة أطفال درعاوية ستحطم جدران هذا السجن، في يوم يشبه هذا اليوم قبل ست سنوات، مرددة مع موسيقى منبعثة من حناجرها أجمل قطعة موسيقية يمكنها أن تطرب السوري "الشعب يريد إسقاط النظام".